توفيق قريرة

 

Aug 21, 2018

 

تمييز فرويد بين ثلاثة أجزاء من الشخصية وهي، الأنا والهو والأنا الأعلى، مضى عليه وقت واستفادت منه طوائف كثيرة في بحوثها، ومن بينها الدراسات اللغوية. ونحن نبين في المقال التالي الجوانب التي يمكن أن تبوب في خانة الهو أو الأنا الأعلى، التي طوعها للغة اللساني الكندي جان كلود كورباي في مصنف جماعي عنوانه» القاعدة اللغوية» (أنظر على سبيل المثال ص 296).
النفسُ تتجاذبها حسب فرويد ثلاثة أقطاب متفاعلة ومتصارعة هي، الهو والأنا والأنا الأعلى. أما الهو فيعني الجزء الغريزي المكبوت والمقموع في الذات، يطلب دوما الإشباع كي تحافظ الذات على كينونتها. أما الأنا الأعلى فهو القطب المثالي من الأخلاق والقوانين التي يمكن أن تجسد السلطة؛ هو ذلك الصوت الذي في الشخص يقول يجب علينا أن لا نرتكب المحظور. أما الأنا فهي القطب الذي يؤمن استقرار الذات فيتوسط بين الشق الغريزي واستباحة المتعة والشق السلطوي المانع لأي جنوح مثالي؛ إنه حكم عدل بين متصارعين أحدهما غريزي ومثالي.
من الممكن أن نميز في اللغة بين إنجاز فردي متمثل في الكلام ينبغي أن يوازن بين انصياع تام للقيود وهو المسمى «الأنا الأعلى اللغوي»، ورغبة مفرطة في نقل المكبوت أو العميق المخزن المعبر عنه بالهو. الحديث عن الأنا الأعلى اللغوي لا يمكن أن يتم بمعزل عن الهو اللغوي، وذلك ما نحاول في إيجاز مقتضى بيانه ههنا.
لعل الزهد في الحديث عن الهو اللغوي أنه لا توجد مظاهر لها دقيقة تصارع الأنا الأعلى اللغوي ممثلا في القواعد اللغوية. توجد رغبة غريزية مكبوتة في الكلام يعبر عنها بأشكال كثيرة كالضمني والإيحاء والتلميح المرتبط بالتعبير عن رغبة أو رغبة جنسية مكبوتة. في معنى الضمني بعض من معنى الهُوَ لأنه يعني شيئا يتولد من آخر بشكل غير صريح، وهذا يعني الانكبات أو تخفي الغرائز واحتياجها للظهور إلى أشكال أخرى، كأنه التسامي أو التصعيد. ومثلما أن الغريزة في الهو تحضر بشكل متخف، وبشكل شبه ثابت فكذلك الضمني هو حاضر في الكلام لأن أي تواصل في رأي فيليب بلنشاي، يكون في جزء منه صريحا وفي جزء منه ضمنيا؛ وأن أي دلالة تتأسس في جزء منها على معطيات ضمنية وهكذا فإن «الضمني هو في كل مكان لأن المرء لا يقول كل شيء». حين أقول «استبشرت الأسرة اليوم حين علمت أنني أقلعت عن التدخين»، فمقتضى كلامي أنني كنت أدخن في السابق، لكن لمَ قلته بشكل ضمني؟ فعلت ذلك رغبة مني في أن أصرح بشيء وأخفي آخر هو أيضا له قيمة إخبارية، وقد يكون هو المقصود أكثر من غيره، كأن أقول هذه الجملة بين من يتسقط معلومات عني يربط بمقتضاها بين الإقلاع عن التدخين والاستقامة أو التبذير.
كثير من كلام السعي بين الناس وبث الفتنة والجاسوسية يكون بالضمني الذي فيه رغبة ونزوة في الفضح والتعرية مخفية. وحين أقول لشخص ما «لقد حل الظلام» ويفهم منها مثلا أنه عليّ أن أنصرف أو أن ينصرف، فإن ذلك أيضا معنى بين السطور أخفى رغبة لا أريد التصريح بها، فأجرح مخاطبي فألوذ بكلام يوري ويخفي ولا حاجة لي بمعناه الظاهر: أنا بالكلام الظاهر أصعد رغبة مكبوتة فأحسن العبارة التي لو قيلت صراحة جرحت.
الهو يمكن أن يظهر في الكلام بشكل آخر، في ما يعرف بالإيحاء الجنسي وهو نوع من الكلام لا كل تأويله، مزروعة بذراته في الحقل الجنسي. الكبت الجنسي يمكن أن يجد قنواته الخفية في اللغة. ومعلوم أن الكلام الإيحائي عموما هو كلام لا تطلب دلالته الأصلية، بل الثانية وتفكك شيفرة هذه الدلالة من استخدام مادة لغوية خاصة، تضاف إلى معنى الكلام الأول والأساسي والثابت، الذي يتألف منه المعنى الحرفي للكلام. في العاميات يقال في هذا السياق ضرب من الكلام يحمل أسماء معلومة، ففي تونس على سبيل المثال يسمى الكلام المحمل بدلالات جنسية بأسماء مختلفة، فالنكتة أو النادرة التي فيها إيحاءات جنسية تسمى «نكتة خضراء» كأنما في الخضرة رمز السر الخفي أو الشبيبة وماء الحياة النضر، حيث الرغبة تقضى كأحسن وقت قضائها. ويسمى الكلام الذي يستعمله مخاطبك ليشغلك بدلالته الحرفية «البريئة» عن دلالته الجنسية الحافة فلا تنتبه إليها لبراءة فيك غير محمودة « الغَشة»، كأن المتكلم يغش إذ يستعمل لفظا ظاهرا محمودا، وهو يومئ إلى معنى جنسي. قد يحدث أن يكون الناس المستمعون في المحيط فاهمين المعنى الحاف إلا المستمع المقصود، في هذه الحالة يكون لسان حالة الجماعة اللغوية المستمعة: من غشنا فهو مناǃ هناك ضرب من الكلام الجنسي الصريح يسمى «الكلام الزائد» لا يدخل في هذا الباب من الإيحاء، لأن العبارات الجنسية فيه صريحة ولهذا غالبا ما لا يُقبل علنا فهو كلام فج عار لا تتخفى اللغة فيه بأي رداء ولا يتسامى الهو اللغوي، بل يأتي بفحش القول جهارا نهارا.
ليس هذا الطرح مألوفا لدى من حاول الاستفادة من ألواح النفس الثلاثة في مدرسة التحليل النفسي، فالمألوف هو الحديث عن الأنا الأعلى اللغوي وربط ذلك بترسيخ القاعدة اللغوية أو المنوال الإنشائي في الكلام، وفق قاعدة الكلام المقبول أو الفصيح أو السائر، وهو كلام ينبغي أن يأتي الناس بمثله. لهذا فإنه كلام يخرج من فم سلطة، سواء أكان المعلم، أم النحوي أم الفصيح من شاعر وكاتب وخطيب. يعتقد جان كلود كورباي أن الحديث عن» أنا أعلى لغوي» يقتضي أن ننظر إلى اللغة من وجهة نظر أنثروبولوجية ثقافية، وهي وجهة من النظر تعتبر اللغة حدثا ثقافيا كغيرها من الأحداث الثقافية؛ وفي هذا السياق تكون اللغة نشاطا يوميا وسلوكا بشريا يأتيه الإنسان مثلما يأتي أي سلوك آخر. وهكذا تصبح اللغة سلوكا فرديا ينبغي أن يقارن بسلوك جماعي، وعادة ما يمثل الكلام الوجهَ الفردي بينما تكون اللغة الوجه الجماعي لذلك السلوك، وعلى السلوك الفردي أن ينضبط لها. من هنا يكون احترام القاعدة اللغوية شبيها باحترام القاعدة الأخلاقية في السلوك؛ وبناء عليه فإن السلوك الأخلاقي والسلوك اللغوي للفرد كليهما لا هو سلوك عفوي ولا حر تماما. إن الأنا اللغوي الذي يكون توازنا بين الأنا الأعلى التقعيدي والهو التصعيدي، يمكن أن يُلاحظ إذا ما عد الكلام سلوكا لغويا يختلف باختلاف الوضعيات التي يكون فيها المتكلم، وباختلاف تطور تعلمه للغة وأدائه لها.
ومثلما قال كورباي فإن تطور منوالنا السلوكي اللغوي يكون بمراعاة معرفتنا باللغة التي تتطور بتعلمها وبمراعاة تطور مكانة المتكلم في المجتمع، وأخيرا بمراعاة ما للمتكلم من رؤية حول لغته بالنسبة إلى اللغات الأخرى التي يتعلمها ويتكلمها. وهذا يدخل في تحليل كورباي ضمن ما يسميه «التعديل اللغوي» الذي لا يجعل اللغة تُتعلم بما هي كيان ثابت، بل تُتعلم وهي تتغير من جهة سلوكنا اللغوي في علاقتنا بذواتنا وبجماعتنا اللغوية وبلغات أخرى تتعامل معنا.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسيةفي نقلا عن القدس العربي