الإبداع فطرة أم نتيجة؟!
بقلم د رلى فرحات
في عالم يتسارع حولنا وندور معه عكس عقارب الساعة، وتجتاحنا عواصف من كل حدب وصوب — اقتصادية، اجتماعية، سياسية، تربوية وحتى فيروسية — نجد أنفسنا تائهين في هذا العالم، نُصارع للبقاء، ونواجه صعوبة في تبيان الخيط الأبيض من الأسود في ظروف تملؤها المغالطات التشخيصية والسلوكية. في خضمّ هذه الدوامة، يلوح مصطلح “الإبداع” كمصباح نيون يومض في ليل طويل: العقل المبدع، هل أنت مبدع؟ كيف تُحوّل طفلك إلى مبدع؟ شعارات رنانة، طنّانة، تملأ منصات التواصل الاجتماعي وتتبناها مؤسسات ومراكز وأكاديميات ومعاهد، يتحدث باسمها منظّرون من كل حدب وصوب، لا يتركون تفصيلة في حياة الفرد إلا وعلّقوها على شماعة الإبداع.
ولم يسلم التسويق من اقتحام عوالم الروح؛ فأصبح يُسوّق للعلاقات الروحية، ولما يجعل المرأة “محبوبة” وللرجل “قوياً وجذاباً”، ويُربط كل ذلك بالإبداع والتميّز والقدرة على التأثير، وكأننا أمام خلطة سحرية جاهزة: كن مبدعاً، تكن محبوباً، ناجحاً، غنياً…! وهكذا تطول القائمة.
وسط هذا الضجيج، تلوح ظاهرة جديدة متجددة تُحاكي الطفل؛ فنرى طفلاً تفوّق على مئات الأقران في الحساب الذهني، وآخر أذهل الأساتذة في عالم الروبوتات، وثالثاً أبدع في الكيمياء، ورابعاً يبرمج التطبيقات في سن الثامنة! ما يطرح سؤالاً ملحّاً: هل هؤلاء الأطفال مبدعون حقاً بالفطرة؟ أم أن الظروف التي أحاطت بهم مهدت الطريق أمامهم لصقل مهاراتهم، وتقديمهم كـ “نجوم”، في ما بين السطور، ليس فقط لإبراز تميزهم، بل للترويج لمؤسسة أو مركز تدريبي أو نظام تعليمي معين؟
هل نُصنّف أطفالنا اليوم وفق مسميات براقة: “عبقري صغير”، “طفل ذهبي”، “نابغة القرن”، بناءً على مقياس ذكاءات متعددة، تُستخدم كأدوات للتفريق لا للفهم؟ أليس من الجائز أن الطفل الذي لم تتح له بيئة محفّزة، لم يُكتشف إبداعه بعد؟
العلم يقول: كل الأطفال يولدون مبدعين. نعم، يولدون مزوّدين بعقل مرن، متخيّل، فضولي، ناقد، مفكر. لكن هذا الإبداع لا يُترجم تلقائياً، بل يحتاج إلى بيئة تسمح له بأن ينمو ويُزهر. بيئة لا تقتل السؤال، ولا تستهزئ بالمحاولة، ولا تعاقب على الخطأ، بل تتبنّى الفشل كجزء من الطريق.
ويؤكد ذلك القول المنسوب للقديس يوحنا: “أعطني توأمين، لأجعل من الأول قديساً، ومن الثاني مجرماً.” ما هو إلا تأكيد صريح على دور البيئة الحاضنة في توجيه الإنسان وتشكيله نفسيًا، تربويًا، اجتماعيًا، علميًا، بل حتى روحياً.
الإبداع، في هذا السياق، ليس امتيازًا جينيًا، ولا بطاقة دخول للنخب، بل هو بذرة في كل طفل، تحتاج لمناخ من الأمان، والثقة، والتشجيع كي تُثمر. لكنه، حين يتحول إلى معيار للنجاح أو أداة للمفاضلة بين الأطفال، يُصبح سيفًا مصلتًا على رقابهم.
كم من طفل حُكم عليه بأنه “غير مبدع” لأنه لا يرسم جيدًا، أو لا يحفظ القصائد، أو لم يفز بمسابقة علمية؟ وكم من طفل كُرّم على منصة، وأُهمل داخليًا في شعوره بالوحدة والخوف والضغط؟ هل نرى فعلاً هؤلاء “المبدعين الصغار”، أم نرى صوراً لأطفال يحملون إنجازات تُناسب الكبار؟
إن اختزال الإبداع بالشهرة، أو بالسبق الأكاديمي، يُفرغه من جوهره. فالإبداع قد يكون في طفل يواسي زميله الحزين، أو في آخر يبتكر لعبة من أدوات بسيطة، أو في ثالث يسأل سؤالاً قلب الموازين.
ولهذا، لا بد من إعادة النظر: هل مفهوم “الإبداع” الذي يُطرح اليوم، بكل زخمه وضغوطه، مشروع اضطراب نفسي مقنّع؟ هل يُمارس علينا كأهل، وعلى أطفالنا، كتجربة جماعية من التوتر المستمر؟ هل تحول من نعمة إلى لعنة؟
الجواب ليس سهلًا، لكنه يبدأ بوعي جماعي: أن نعود للإبداع كمساحة حرية، لا منصة سباق. أن نراه في العادي، في اليومي، في الحياة. أن نؤمن أن الطفل مبدع ليس حين يُدهش العالم، بل حين يكون صادقًا، مستمتعًا، شغوفًا، مرتاحًا في ذاته.
وهنا فقط، يتحرر الإبداع من قفص المقارنات… ويصبح طريقًا للنمو، لا اختبارًا للنجاة.
رُلى كامل فرحا