بقلم د أنور الموسى
تطغى الخنفشارية على الساحة النقدية والأكاديمية وحتى الاجتماعية، بحيث غدا الخنفشاريون المتفلسفون والمفتون الكثرة المهيمنة، فلا تفوتهم قضية إلا ويدلون بدلوهم فيها، وقد يصل بهم الأمر إلى جعل ما يتفوهون به بمنزلة اليقين...فما المقصود بالنقد الخنفشاري؟ وما صفات الناقد الخنفشاري؟ وما جذور هذا المصطلح؟ وما مظاهره في النقد الأدبي…؟ وهل يحل مكان النقد الهادف؟ وهل من بصيص أمل في القضاء عليه؟!
يقصد بالنقد الخنفشاري؛ ذلك النقد الذي اخترعه العرب…وفيه يتفلسف الناقد الخنفشاري في كل القضايا، مدعيا المعرفة الكاملة والحقيقة المطلقة، متعاميا عن هفواته، جاعلا من آرائه سنة يجب أن تتبع…
بعيدا من النرجسية المفرطة والنقص المتمكن في شخصية الناقد الخنفشاري، فإنه بلا ريب، يتصف بصفات من السهل اقتناصها، منها الغرور والادعاء والزهو وطلاقة اللسان وحسن التفلسف وقوة الإقناع والتأثير في الآخر، ناهيك باقتناص الفرص ولا سيما حين تستضيفه وسائل الإعلام أو تستضيفه مذيعة ساذجة أو جمهور بسيط.
فالناقد الخنفشاري يأخذ من كل قضية نقدية بطرف، من دون التعمق بما يطرح، وقد يصل به الغرور إلى الإفتاء في قضية لغوية أو حتى دينية. لا مشكلة عنده ما دام يعلم مسبقا أن لا أحد سبفتضح سره، وما دام يخاطب مجتمعا لا يقرأ إجمالا.
والمصيبة أن الخنفشاري قد يقدس نظرياته، فتجد له أتباعا ومريدين، ومناهج في الرياء والتزلف والتملق.. حيث يرفع بكلامه الخنفشاري من قدر تافهين… أو يحط من قدر عظماء مبدعين… وهذا الأمر بالذات لا يقتصر على الناقد الخنفشاري فقط، بل يطال حتى الأكاديميين والمثقفين الخنفشاريين.
ولذا، غدت الخنفشارية مدرسة نقدية لها أتباعها وقد تدرس يوما ما…
ولمعرفة جذور المصطلح اللعين، حسبنا أن نذكر قصة عجيبة ذكرها المقري في كتابه: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب.
يروى أن رجلاً كان يفتي من دون توقف، ويدعي معرفة كل شيء، فلاحظ أصحابه ذلك منه، فاجتمعوا لامتحانه، وقالوا: لنخترع كلمة من خيالنا، لا وجود لها في قاموس العرب أو العجم، فنسأله عنه، وكانوا ستة.
اخترع كل واحد منهم حرفا، وركبوا من حروفهم كلمة: (خ ن ف ش ا ر)، وذهبوا إلى شيخهم، وسألوه عن معنى «خنفشار»، فأجابهم بسرعة، قائلا: إنه نبت طيب الرائحة، ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها، وقال شاعرهم اليماني :
لقد عَقَدَت محبتُكم فؤادي/ كما عقد الحليبَ الخنفشار
وتحقق لديهم أنه كذابٍ ومفتر في سبيل تعالمه… فأسموه بعدئذ بالخنفشاري، وذهبت مثلاً لمدعي العلم…
مجمل القول: أضحى النقد الخنفشاري آفة متغلغلة، لا بد من مواجهتها من خلال فضح أصحابها، ولكن المصيبة أن ذويها مدعومون عادة سياسيا، بحيث إنك إن فكرت بافتضاح أمرهم، فستواجه مشكلات قد تنغص عيشتك.. ولذا يرى “المناطقة” أن الصمت على زعرنتهم أضعف الإيمان كون انتقادهم قد يوصلهم إلى مراكز أعلى… ولكن ماذا عن خنفشرية رجال الدين والسياسة والمؤسسات الثقافية المهترئة….؟ تلك قضايا أخرى، وحسب المرء أن يولول: إن كان الكلام من فضة، فالسكوت من ياقوت وزمرد…!
مجلة إشكاليات فكرية مجلة ثقافية معرفية