الجمعة , مايو 17 2024
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / “رغيفنا الورقيّ” بقلم الأستاذة لمى التقي.

“رغيفنا الورقيّ” بقلم الأستاذة لمى التقي.

“رغيفنا الورقيّ”
بقلم الأستاذة لمى التقي.

 

لطالما كانت الكتب للقرّاء قوتهم اليوميّ الذي يتغذون من أبجديّته، ويرتوون من معانيه، ليكتمل بذلك نموهم الفكريّ وجذورهم اللّغوية. ولطالما كانت القراءة ملاذ المستضعفين يحتمون في طيّاتها من صقيع النفوس وهي من هذا المنطلق أنقذت ملايين البشر من الانزلاق في براثن الوحدة، حتى ارتقت مجتمعات كان أساسها الفكر والكلمة.
في مجتمعنا اللّبناني اليوم، ومع ما نشهده من انهيار طال جميع القطاعات يقف القارئ بحسرة شديدة لا حيلة في يده سوى الصراخ بأبجديّة تندثر من بين أصابعه، يراقب القطاع الثقافي الذي أبحرَ في سفينة صدئة مزَّقت العاصفة الاقتصادية أشرعتها فتوقفت رحلتها في بحر من الأحلام التي علقت طوعاً.
إذن، كيف أثرت الأزمة الاقتصادية على العلاقة بين القارئ والكتاب الورقيّ؟
إنّ انخفاض قيمة العملة الوطنيّة مقابل العملة الصعبة أدى دوراً كبيراً في تحويل الكتاب من متطلب رئيس لدى القراء إلى متطلب ثانوي. بطبيعة الحال الإنسان بات يخيّر نفسه بين القراءة ولقمة العيش، وهذا يعود إلى ارتفاع أسعار الكتب بشكل جنونيّ لدى الكثير من دور النشر التي باتت تعتمد على العملة الصعبة، ولسعر الصرف اليومي لبيع الكتب وتوزيعها على المكتبات. وهذا الأمر انعكس بشكل سلبيّ على القرّاء ومن كان يجمع المال في شهر لشراء عدد من الكتب أصبح يجمع المال لأشهر لشراء كتاب واحد. فالقارئ اللبنانيّ يعدو خلف رغيفه الورقيّ، لاهثا جائعا ليقضم من أطياف أوراقه حرفا، فقوته الفكريّ والثقافي أصبح صعب المنال، والورق أسمى من الخبز! وفي عمق الانهيار الهائل، نلاحظ تراجع عدد الوافدين على الكتب الورقيّة فأصبحت القراءة الإلكترونية البديل الأنسب لفئة كبيرة من القرّاء والفئة الأخرى المرتبطة ارتباط وطيدا مع هذا الكتاب لجأت إلى المكتبات العامة عن غير رغبة ولكن للضرورة التي أتاحت المجال للإعارة فينعم بملمس الورق ويغرق في ضوء المعنى لفترة زمنية محددة، والبعض الآخر انكبّ في الأسواق القديمة حيث يجد فيها كتبا مستعملة فيقوم بشرائها بسعر رمزيّ.
القراءة بخير والكتاب الورقيّ أيضا هو باقٍ ولا غنى لنا عنهُ إنّ أهم مراكز البحوث والمؤسسات الدراسية الكبرى تعتمد في دراساتها وأبحاثها على الكتاب الورقيّ ورغم الانهيار المؤسف ما زال الإقبال على شراء الكتب قائما -ولو بنسبة قليلة- وهذا يؤكد أنّ جذوره متينة راسخة أبدا..
وهذا ما أوضحه لنا كل من مكتبة “الحلبي” و”فيلوسوفيا” بأنّ القراء ما زالوا يعتمدون الكتاب الورقيّ وإن بنسبة أقلّ من السابق. كما نشهد الكثير من الحملات لزرع بذور الثقاقة في فصل الانهيار مثل “قمح وكتب” التي ما زالت تبيع كتبها على السعر القديم والعديد من المكتبات التي نشأت إلكترونياً لبيع الكتب بسعر مقبول ومنخفص نذكر “فطحل” و”بوكيز” وغيرهما.

وفي مقابلة مع مديرة دار ناريمان للطباعة والنشر والتوزيع الإعلامية والأستاذة ناريمان علّوش تُعلّق وتقول: “إنّ نظرتي كقارئة تختلف عن نظرتي ككاتبة وناشرة. فالبنسبة إلي كقارئة ما زلت أنجذب إلى عنوان كتاب ما أو إصدار جديد يخصّ كاتب أهتمُّ لمنشوراته، وما زلت أبحث عن زواية تؤوي شغفي للقراءة في إحدى المكتبات حيث ألتقي بالكثير ممّن هم مثلي وممّن لم تغويهم مساحات الترفيه الالكترونية ولم تؤثر على ميولهم واتجاهاتهم، فأشعر أنّ الكتاب ما زال بخير وأن مساحة القراءة الدافئة لم تطلها العواصف الاقتصادية والسياسية.
بينما حين ألقي نظرة إلى الوسط كناشرة وكاتبة أشعر أن هناك الكثير من الثغرات التي حفرتها الجائحة ووسّعها التدهور الاقتصادي.
فمعظم القراء المتمسكين بالكتاب صاروا يلجأون إلى المكاتب العامة للقراءة او ربما استعارة كتاب أو الاستعانة بنسخة الكترونية مجانية وصار شراء الكتب عملية تحتاج إلى التخطيط والتفكير، إذن القراءة بخير لكن الكتاب الورقي ليس بخير، والمؤلف والناشر ليسا بخير. فإن لم يكُن هناك من يشتري الكتاب لدعم استمرارية الكاتب والمؤلف، فحتمًا سيحترق
وختمت الأستاذة ناريمان بقولها: أفضّل التمسّك بالأمل دائمًا والإيمان أنّ هناك نهضة ما قادمة ستعيد تصويب الأمور إلى مسارها السليم.”
إنّ واقع الكتاب الورقيّ اليوم وارتفاع سعره أزمة لا تقلّ خطورة عن ارتفاع أسعار الأسس المعيشية في لبنان، وإنّ تسليط الضوء عليها واجب على كل حرّ مبدع.
نريد لرغيفنا الورقيّ أن يحيا وأن ينمو لكي نرتقي، إنّ البلاد تسمو بالكلمة والفكر الرصين، وذاكرة المدن تتلاشى عندما تبدأ نشاطاتها الثقافية بالاندثار.
نريد قمحنا وورقنا معا.. لنستعين على نائبة الجوع والجهل بهما.

لمى التقي .