الجمعة , مايو 17 2024
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / عودة في الذاكرة: إلى ٤-آب-٢٠٢٠ وما حوله- علي الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

عودة في الذاكرة: إلى ٤-آب-٢٠٢٠ وما حوله- علي الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

 

عودة في الذاكرة: إلى ٤-آب-٢٠٢٠ وما حوله-

علي الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

غيّرت مكان إقامتي، منذ مدّة، أذكر بوضوحٍ يومها كيف وضّبتُ عاطفتي وما أملك من الذاكرة في حقيبة السّفر، بين علب السجائر وملابسي الداخليّة، وبقايا من يد أمّي ورائحة غسيلها. يومها، نظرتُ مليّاً إلى جدران بيتنا، لم أكن أتخيّل كيف لحيطانٍ صماءٍ أن تتحكّم بإنقباضات قلبي، وكيف لآثار الوحل على شباك مطبخنا أن تحفر في رأسي لهذا الحدّ كأنّها ماثلةٌ أمامي الآن. إختلجني خليطٌ عجيبٌ من المشاعر، كنتُ أرمقُ كلَ تفصيلٍ بتمعّنٍ لئلّا أنساه أبداً فأرتكب بنسياني، -والإنسان بطبعه نسيّ- لئلّا أرتكب فعل خيانة. ما زلتُ أذكر جيّداً النقش على السجاد، العقد في خشب الأبواب، رخام الأرض … وأيضاً، ما زلتُ أذكر وأشعر بدفء يديّ أبي حين قبّلتهما لآخر مرّةٍ، وبحرارة العناق مع أمّي، وبضحكات أختي وصهري التي خبّؤوا خلفها دموعهما.

سافرتُ. ومنذ اليوم الأول كان الهدف، وما زال، واضحاً ودقيقاً ومحدّداً، أن أجد أرضاً تحملني وسماءً لا تضع سقفاً لي ولما أريد. والآن، في هذه اللّحظة الأدبيّة بالضبط، أنا موجودٌ على هذه الأرض وتحت هذه السماء اللتين أردتُهما. الناسُ هنا بالغالب طيّبون، كلٌّ وشأنه، يفتحون عيونهم على الكرواسون، يذهبون إلى أعمالهم، يترقّبون إستراحة الغداء ملهوفين، ثم يكملون دواماتهم قبل أن يؤوبوا إلى بيوتهم منهكين. سلسلة دائرية من الأحداث لا يكسر رتابتها إلّا سردةٌ على قنينة نبيذ وقالب جبنة. وبحكم الواقع، أنا أعيش معهم نفس حياتهم، وأعمل معهم على نفس إيقاعهم، وأترقّب إستراحة الغداء بلهفةٍ تحاكي لهفتهم، وأعود إلى بيتي منهكاً مثلهم، ومرّات أكثر.

الناس هنا فعلاً طيبون، ومسالمون، ولا أجامل، كثيراً ما يحدثونني عن أحلامهم، عن خططهم المستقبلية، عن فلسفتهم للحياة، عن علاقاتهم العاطفية، عن الله … وغيره. وفجأةً، يسألونني من أنتَ؟ أين ولدتَ؟ وبماذا تفكّر؟ أسئلتهم مشروعة حتماً في قالب حديث، وأجوبتي تكون لبقةً طبعاً، لكنّها كاذبة!
– من أنا؟ أنا ناجٍ من بلادٍ غادرتها ولم تغادرني، وما زلتُ أحمل حزنها وأثقالها دون أن يكون لي فيها موطئ قبرٍ أو قدمين. بلادٌ تشبه المجزرة، بلادٌ صارت مقبرةً جماعيّةً لكلّ مولودٍ فيها.
– أين ولدتُ؟ أنا مولودٌ في البقاع، في السهل الممتد كأرجوحة شبكية بين جبلين، كان لي جدٌّ ذو حاجبين سوداوين ينسكبان من جبهته كما نسكب القهوة العربيّة من مصبّات النحاس في أفراحنا، ولي جدّةٌ تعجن التراب وترقّ الخبز على ساعديها، ولي أهلٌ، ولي شهرةٌ، ولي صحبةٌ، ولي كرمٌ … ولي وهمٌ! وهم كل الأشياء التي أحبّ، في بلادٍ لا تتّسع للحب، يعشعش فيها الخوف، تسكنها الحرب، حتى أنّه قد يصادفك فيها الموت، الموت الرخيص، لأجل ربطة خبز، أو علبة حليب أطفال، أو أفضلية مرور، أو رصاصة إبتهاج …
بماذا أفكّر؟ في رأسي فكرةٌ واحدةٌ إحدى كما الله عند المحمديّين، فكرةٌ ناطقةٌ، أسمعها برأسي بصوتِ شخصٍ محدّدٍ، بصوت قائلها، بصوت قاتلها، مظفّر النّواب. فكرتي، هي فكرته. أحلامنا؟ أماننا؟ تعبنا؟ عرقنا المهروق؟ دمنا، دمنا المسفوك؟ لأجلِ من؟ لأجلِ ماذا؟ وهنا يأتي سؤال مظفّر النواب، وعنه أقتبس: “كيف يحتاج دمٌ بهذا الوضوح إلى معجمٍ طبقيٍّ لكي نفهمه؟!” –