الجمعة , مايو 17 2024
الرئيسية / ابحاث ودراسات عليا / سبع قصص من كتاب الحرب” لنضال صالح.. رسائل سبع بطعم الموت!

سبع قصص من كتاب الحرب” لنضال صالح.. رسائل سبع بطعم الموت!

بقلم الدكتورة فاطمة شحادي

“سبع قصص من كتاب الحرب” لنضال صالح..
رسائل سبع بطعم الموت!

قرأت مرّة: ” هل يُمكن لروائي أن يكتب روايته عن حدث إنسانيّ مُهوّل بينما الحرائق تكتب الأقدار البشريّة؟ وكيف يُمكن للكاتب أن يكتب أدبًا.. بينما العواصف تأخذ كلّ شيء وتأتي على كلّ شيء ولا يبقى سوى الدّم حبرًا للكتابة؟”
نعم… فكتاب ” سبع قصص من كتاب الحرب” للكاتب نضال صالح ، ارتقى إلى حجم المأساة الكبرى الّتي حلّت بسوريا بعد أن دخلتها الجماعات التّكفيريّة ” الحثّيون الجدد ومغول العصر وضباع هذا الكوكب الملوّث” بتعبير أحد شخصيات القصص، التي عاثت فيها فسادًا وتخريبًا؛ حتّى غدت هذه القصص ملحمة مأساويّة مفتوحة، وثّقت حكايا القتل والتّدمير للبشر والحجر معًا…
يقول الرّاوي: ” الكتابة طهارة للرّوح، وخلاص لها من عصف الألم. لا يهمّ لمن هذا القول… المهمّ.. أنّني بدأت الكتابة لعلّ الحبر الذي سيغمر هذا البياض المُحايد يُطهّر هذا الهواء المُلوّث الذي يثخن رئتي بهباء الفجائع..” (ص. 7)

قصص سبع: ” غصن البان، رسائل عاجلة، دير العصافير، حبّذا الرقة، وللخير أسباب، فيا شجر الخابور، دنيا من النّور”… رسائل بطعم الموت.. برائحة الدّم التي تعبق بصفحات الكتاب فتخنق الكاتب والقارئ معًا… وهو القائل: ” من أين أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ وما الذي تبقّى من العمر لأبدأ؟ حتّى لو بدأت، فأيّ شيء يُعوّض ما فقدتُ؟” (ص. 17) … ما يعني أنّ هذه القصص تُجسّد المنظور القصصيّ الذي تمّت منه الرّؤية إلى بنية الفقد والشّتات في وطن الرّاوي، كما تنطق به البنية القصصيّة.

قصص ترصد الواقع المجتمعيّ السّوري إبّان الحرب، وتصوّره نصوص قصصية متنوّعة، من حيث البنى والتّقنيات القصصيّة… ما يعني أنّ قصص صالح خُطّت لتعبّر عن قمع يعيشه الإنسان العادي فيه والذي يبحث عن مخرج، فهل يجده؟ وهل تسهم القصّة في إيجاده؟ نفترض بأنّ المادّة القصصيّة التي نتناولها تشكّل حلمًا لدى صالح يُشكّله هاجسه لتشييد واقع مُغاير لما هو كائن.

يلتقط صالح في تجربته القصصيّة لحظات الهمّ الوطني والاجتماعي، كاشفًا الواقع ورائيًا إليه، وهو بذلك يجسّد تجربة الفقد الإنساني المُثمر عطاءً ووعيًا… ناطقًا بدلالة كلّية، هي بنية الفقد والتهجير والموت، تشدّك نحوها، لترميك في سراديب أحياء شهدت أفظع مشاهد القتل وتقطيع الرّؤوس والاغتصاب الجماعي للفتيات العذارى…
من الصّور المؤلمة التي تستوقف القارئ، حكاية إيمان، الفتاة الجامعيّة الحالمة، والتي اغتصبها زميلها في الجامعة صُهيب، المنتسب سرًّا إلى إحدى المنظمّات التّكفيريّة، بعد أن اختطفها بمؤازرة رفاقه من الوحوش…
نجت إيمان من الموت بأعجوبة، وذلك بعد أن تمكّن الجيش من القضاء على هذه الجماعة، لكنّها وإن لاذت بالفرار بقيت أسيرة الصّور السوداء في ذاكرتها… مشاهد اغتصابها الجماعي عشرات المرّات…
تروي إيمان كيف كان صهيب يُقيّدها إلى السّرير ثم يلهث كضبع شره فوق جسدها، ثمّ يسلّمها لسواه من الذّئاب، فتشعر وكأنّها استسلمت للموت الّذي لا مفرّ منه! واللّافت بأن هذا المغتِصب نفسه كان قد عرض عليها الزواج يومًا، طالبًا منها أن تحجب شعر رأسها وتلتزم الحجاب الشّرعي…
ما يدفعك لتسأل: ماعساك تقول لامرئ يتشدّق بالدّين والحجاب والعفاف جهرًا، ويمارس الاعتداء والاغتصاب والقتل سرًّا! وهل يُؤتى الله من حيث يُعصى! وأيّهما أولى بالهداية والإرشاد؟! فتاة سافرة من دون حجاب، أم رجل ملتحٍ يغتصب الفتيات عنوة ويخون وطنه وأهله؟

” رسائل عاجلة” أشعلها القاص بشمعة قلبه النّازف، ثمّ أرسلها إلى حلب، من “البيت الحلبي”، بعد أن استبّد به لظى الحنين إليها.
تتقاطع أحداث هذه المجموعة القصصيّة جميعها في خيط واحد، وهي إن بدت متفكّكة تُطارد ذاكرة الرّاوي إلّا أنّها تفضح برؤى القاصّ، في محاولة منه لإعادة ترميم الخراب الذي حل بوطنه الحبيب، وتوثيق مشاهد الحرب على حلب بكل فواجعها ومآسيها ” ..حلب وهي تترنّح تحت حوافر أولئك الهمج الذين تدفّقوا عليها من ظلمات التّاريخ، ثمّ وهي تودّع المزيد من الشّهداء من الرّجال والنساء والأطفال” (ص. 32) فتبدو الخيبة متأجّجة في ثنايا قصصه، ويظهر الإحباط والوجع والتشاؤم على غير صعيد، وتظهر شخصيّاتها قلقة ناقمة على صمت وانهزام وخيانة…
يكتب نضال صالح قصّته هذه باحثًا عن فقد ما، ويتبيّن لدينا أنّ المواجهة التي حصلت بين سراب وأحمد، تُعلن أفقًا لا على مستوى القصّة بذاتها، وإنّما على مستوى الذّات ( القاصّ) التي ترغب في إتمام فعل تحويلي ( تحرير حلب من خائنيها)، وفي الوقت الذي تُخبر فيه سراب حبيبها السّابق أحمد كشفها لخيانته، يخرج الصّوت المُعلن تحرير الجيش لحلب من خائنيها.لذا يمكننا القول: إنّها قصّة تجسّد الخيبة، خيبة حلب من أبنائها العاقين!
تاليًا، نلتمس رؤى ناطقة تسعى للخروج من منطق( الخيانة والاستسلام وفقد الموطن/ زمن الاحتلال والتّهجير) إلى واقع آخر مُغاير( النّصر والعودة والحياة الكريمة / زمن التّحرير والأمان والحبّ)… وهكذا يتولّد المنظور القصصي التّركيبي، إذ نستطيع ملاحقة الدّلالة التي اتبعتها القصّة، انطلاقًا من المنظور الاستبدالي ( امتلاك/ لاامتلاك- فقد/ لافقد) ليتّضح لنا بأنّ المجتمع السّوري بوصفه فاعلًا جماعيًّا يتبنّى برنامجًا سرديًّا ينفي من خلاله أن يبقى فاقدًا لمقومّات الحياة الكريمة.
ولأنّ ما وراء السّرد في قصص صالح، يغدو أيضًا ناطقًا بدلالة كلّية، فإننا نستقرئ العنوان الذي يُعدّ من أهم العتبات النّصيّة الزّاخرة بمخزون تأويلي، ما يدفعنا لنسأل: لم اختار القاصّ كتابة سبع قصص؟ لا شك بأنّه استخدم هذا الرّقم علامة دلاليّة، إذ يشترك الكثيرون من القصّاصين على عدّه رمزًّا للقوّة والنّصر( شارة النّصر، السّموات السبع/ رمز العدالة)، ليغدو بذلك رمزًا للتّحرير المُرتقب.
ما يعني أنّ القاصّ يأبى إلّا أن يكون الخلاص، فتراه يُعيد تشكيل فضاء اللّقاء بين الأحبّة المُبعدين قسرًا، ولو من بعد الموت.. إنّه الإصرار على العودة إلى أصل الوجود، وهو بذلك يُعيد تشكيل عالمه الخاص/ العالم المفكّك ( حلب الممزّقة) في عوالم متخيّلة توحي بالفقد الذي أنتجته الحرب، ليضعه في حدود أوسع من جغرافيا المكان الممزّق، والزّمن المشتعل العابق برائحة البارود والنّار…
يبدو هذا الأمر واضحًا في نهايات قصصه. نستذكر هنا قصّة حب سهير وفراس الذي تخلى عن وظيفته في التّدريس ليلتحق بالدفاع الوطني ويستشهد مع مجموعة من رفاقه الأباسل… إذ نقرأ في خاتمة القصّة: ” فبينما كانت سهير تقرأ الفاتحة لروح فراس، وبينما روحها تجهش ببكاء مكتوم، تصدّعت حجارة القبر، ثم انشقّ التّراب، ثمّ ران جسد فراس.. وبينما هي تأخذه إلى صدرها وتردّد فيما يشبه التّرتيل: ؟أحبّك، أحبّك”، كان ثمّة على الشّجرة المجاورة عصفوران يزقو أحدهما الآخر بالقبلات” (ص. 48 و 49)، كما أعاد القاصّ تشكيل اللّقاء بين الرّاوي وحبيبته ريمة التي أعدمها التّكفيريون مناديًا إياها :” ياغصين البان” فيغمرها ويقبّلها بينما يرفل بحرير الحلم، وقد سمع صوت المؤذّن ينادي: حيّ على الحياة ( ص. 19) ما يعني أنّ القاصّ يحمل شمعة وسط الظّلام… يهدم بها الحاضر المعيش المرفوض ليشيد الغد الحالم والمأمول.
لاذ صالح بقصص شكّلت عالمًا خاصًا به. إنّه الحصن الآمن بعد أن حلّت الفاجعة بوطنه، ليغدو كتابه ” سبع قصص من كتاب الحرب” ذاكرة بديلة شهدت على أبشع الجرائم وأقساها عنفًا، لا بل جغرافيا بديلة تضافرت عناصرها القصصيّة من شخصيّات وفضاءات تحكي المأساة الكبرى والانتصار الكبير، في محاولة منه لبث الأمل في نفوس الأجيال القادمة، وليثبت للجميع بأنّ رغم كل محاولات الإبادة سيبقى وطن القاص ندبة على خارطة الذّاكرة الجماعية للشعوب كافّة.. ذاكرة جسّدت الصّور الأليمة، تؤازها مخيّلة القاص الناطقة برؤى رائية إلى وطن ممزّق منتصر على الدوام، فحلب التي عاندت الموت، ستظل تبدع الحياة كما يليق بالحياة.