بقلم أ.د بومدين جلالي
الصورائية النقدية المقارنية في الجزائر (صورة الفرنسي في الرواية المغربية) لعبد المجيد حنونا نموذجا –
أ . د. بومدين جلالي -أستاذ الأدب المقارن – جامعة سعيدة- الجزائر.
مدخل:
للمقارنية النقدية الأدبية في الجزائر تاريخ طويل، وتنوع واسع، باللغتين العربية والفرنسية. فمن حيث التاريخ؛ نجد لها حضورا منذ نهاية القرن 19م في نشاطات الجمعيات الجزائرية التي سعت إلى إبراز نقاط التقاطع والتقارب بين ثقافة العرب وثقافة أوروبا، مثل ما ذهبت إليه الجمعية الرشيدية والجمعية التوفيقية([1])، كما نجد لها حضورا تطبيقيا أكاديميا في بداية القرن 20م ضمن أعمال محمد بن أبي شنب([2]) إلى أن جاء التأسيس باللغة الفرنسية مباشرة بعد استقلال الجزائر أين ظهرت “الجمعية الجزائرية للأدب المقارن” ومجلتها([3])، ثم التأسيس باللغة العربية ابتداء من 1969م مع أبي العيد دودو وما تلا ذلك من بحوث في مختلف الجامعات الجزائرية. ومن حيث التنوع، ضمن البحوث التي أنجزت بالعربية من 1969م إلى زمن تحرير هذه الدراسة؛ جاءت دراسات التأثير والتأثر وفق الكلاسيكيات التأسيسية للاتجاه التاريخي([4])، والدراسات التيماتولوجية([5])، وتاريخ المقارنية([6])، ونقد الترجمة([7])، والاستشراق([8])، والعولمة([9])، وما إلى ذلك… هذا إضافة إلى الدراسات الصورائية* التي حددناها موضوعا لهذا البحث.
نشأة الدراسات الصورائية في الجزائر وتطورها:
ما إن تعرب اختصاص الأدب المقارن في الجامعة الجزائرية على يد أبي العيد دودو([10]) ثم بدعم التعاون العربي ابتداء من سبعينيات القرن 20م([11]) حتى ظهر الاهتمام جليا بالدرس الصورائي لعوامل متعددة أهمها المساهمة في كتابة التاريخ الوطني من خارج اختصاص التاريخ، ثم التعريف بالقضايا الثقافية المغاربية المهملة عند المشارقة بشكل خاص، إضافة إلى التمكين للأدب المقارن باللسان العربي في الجزائر التي كانت وما تزال تعاني من هيمنة اللغة الفرنسية التي تغلغلت في الكثير من مناحي الحياة أثناء الفترة الاستعمارية ولم تتقهقر بعد الاستقلال الوطني بحكم سيطرة التيار الفرنكوفيلي/ الفرنكوفوني غالبا على مصادر القرار ذي الأهمية.
ففي مجال المساهمة في كتابة التاريخ الوطني الذي عمل الاستعمار على طمسه حينا وتشويهه حينا، يقول أبو العيد دودو متوجها إلى الجزائريين الوطنيين الذين يتقنون لغة من اللغات الأجنبية: “إني أعتقد أن من واجب كل من يتقن لغة أجنبية أن يشارك في إعادة كتابة تاريخ بلاده بغض النظر عن ميدان تخصصه، ومشاركته هذه تتم في نظري عن طريق عرض النصوص المكتوبة بهذه اللغة أو تلك وتقديمها للمؤرخ المتخصص لتقويمها وربطها بقرائنها التاريخية، ثم مقارنتها بغيرها من النصوص لمعرفة مدى صحتها وموافقتها للوقائع التاريخية”([12]). وما دفع بأبي العيد دودو إلى هذا التوجه هو أنه لاحظ – بحكم إتقانه للغات أوروبية متعددة، وعلى رأسها الألمانية- “أن الجزائر قد عرفت في القرون الأخيرة، في نهاية العهد التركي وإبان الاحتلال على الخصوص، عددا غير قليل من الأسرى والعبيد، كانوا ينتمون إلى بعض شعوب أوروبا، وزارها كذلك بعض الرحالين والكتاب والعلماء والشعراء. وبعد أن رجع هؤلاء وأولئك إلى بلدانهم أصدروا كتبا على شكل رحالات، أو بصورة رسائل، أو مذكرات، تحدثوا فيها عن تجاربهم الشخصية في الجزائر وعلاقاتهم بأهلها، وعبروا عن موقفهم من قضاياها الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية والخلقية، كما تطرقوا إلى وصف العادات والتقاليد وأساليب الحياة في المدن والقرى والأرياف”([13]) ووفق هذا التوجه الذي أملته ظروف الجزائر بعد استعادة سيادتها الوطنية سار العديد من الدارسين الصورائيين الجزائريين مثل عثمان بلميلود ومحمد أغامير، ومثل حسين أبو النجا من الفلسطينيين/ الجزائريين بحكم اندماجه في الحياة الوطنية، ومضاهاة قضيته للقضية الجزائرية.
وفي مجال التعريف بالثقافة المغاربية المهملة في المشرق العربي جراء تركيز المشارقة على مشرقيتهم دون الالتفاف كثيرا إلى المنجز الثقافي الحديث في بلدان المغرب العربي، سواء كان ذلك المنجز ناطقا باللسان العربي أو باللسان الفرنسي الذي فرضته ظروف تاريخية معروفة، يقول عبد المجيد حنون : “إننا نعتقد أن هذه الدراسة ستنبه كثيرا من الدارسين العرب إلى العديد من الجوانب المهملة دون درس في أدبنا العربي… وتوضح رأي المغاربة* في الفرنسيين، وبالتالي ما يحبون وما يكرهون في غيرهم، أي توضح شخصيتهم من خلال رأيهم في الفرنسيين”([14]).
ولم تقتصر الدراسات الصورائية في الجزائر على الهدفين المشار إليهما أعلاه، وإنما ذهبت تتوسع وتتطور خدمة للمقارنية النقدية الأدبية في حد ذاتها كما توضحه البيبليوغرافيا المختارة التي نقترحها فيما يلي:
من بيبليوغرافيا الدراسات الصورائية في المقارنية النقدية الجزائرية.
السنة | عنوانها | مؤلفها | مضمونها |
1970م | الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان ([15]) | أبو العيد دودو | صور مختلفة عن بعض جوانب الحياة في جزائر القرن 19م مستخلصة من كتابات الرحالين الألمان ما بين 1830م و1855م. |
1979 م | صورة الفرنسي في الرواية المغربية([16]) | عبد المجيد حنون | صور متعددة للفرنسي الاستعماري من خلال روايات مغاربية (هي نموذج هذا البحث). |
1982 م | صورة الفرنسي في أدب طاهر وطار([17]) | شريبط أحمد شريبط | متابعات لصور الفرنسي الاستعماري في روايتين ومجموعتين قصصيتين للطاهر وطار. |
1983 | صورة العرب في الشعر الإسباني([18]) | محمود صبح | صورة متعددة لتجليات العرب بخاصة الأندلسيين منهم في الشعر الإسباني. |
1984 م | صورة الشرق في أدب فولتير المسرحي والقصصي([19]) | عيسى بريهمات | متابعة تأثيرات الثقافة الشرقية العربية في إبداع الفرنسي فولتير. |
1999 م | قصص فولتير، صورائية الصحراء العربية، زاديج أو القدر([20]) | عبد الواحد شريفي | متابعة لصور الصحراء العربية في الأعمال القصصية للأديب الفرنسي فولتير. |
2001 م | صورة الصحراء الجزائرية بين إيتيان دينيه وإيزابيل إبرهارت([21]) | عثمان بلميلود | صورة الصحراء الجزائرية في العهد الاستعماري في كتابات إبرهارت ودينيه إضافة إلى بعض لوحات هذا الأخير من ألبومه.
Tableaux de la vie arabe |
2002 م | اليهودي في الرواية الفلسطينية([22]) | حسين أبو النجا | متابعة لصور متعددة من نماذج يهودية في الروايات الفلسطينية. |
2014 م | صورة الجزائر في مخيال الآخر، لدى الأدباء الفرنسيين في القرن 19م([23]) | محمد أغامير | متابعة صورة الجزائر في أعمال ألفونس دوديه وغي دي موباسان ولويس برتراند. |
دراسة النموذج “صورة الفرنسي في الرواية المغربية”:
- مؤلف النموذج:
هو عبد المجيد حنون([24])، أستاذ التعليم العالي ومدير مخبر الأدب العام والمقارن بجامعة عنابة، من مطوري الدراسات المقارنية في الثقافة العربية المعاصرة، وعضو الرابطة الدولية للأدب المقارن. باحث مثابر من أهم أعماله (خارج التأليف المعجمي والترجمة من الفرنسية إلى العربية ) ما يلي:
الرقم | عنوان العمل | طبيعته | فضاء نشره | السنة |
01 | صورة الفرنسي في الرواية المغربية | أطروحة ماجيستير بجامعة القاهرة 1979م | ديوان المطبوعات الجزائرية/ الجزائر | 1986 م |
02 | أثر الأدب الفرنسي في الأدب الجزائري الحديث ذي التعبير العربي | مداخلة في ملتقى | أعمال الملتقى الدولي حول الأدب المقارن عند العرب | 1983 م |
03 | محاولة لتحديد مفهوم الأدب المقارن | مداخلة في ملتقى | أعمال الملتقى الأول للمقرنين العرب | 1984 م |
04 | تدخل بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة فكتور هيجو | دراسة في المؤتمر 11 للرابطة الدولية للأدب المقارن | المجلة الثقافية الصادرة عن الجامعة الأردنية/ العدد 9 | 1985 م |
05 | السياق التاريخي والثقافي في نشأة النقد الجامعي عند العرب | دراسة | المجلة الثقافية/ العدد 23 | 1990 م |
06 | اللانسونية وأبرز أعلامها في النقد العربي الحديث | أطروحة دكتوراه بجامعة الجزائر 1992م | الهيئة المصرية العامة للكتاب | 1996 م |
07 | المنهج التاريخي في دراسة الأدب العربي ونقده | دراسة | مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة عنابة/ العدد التجريبي | 1995 م |
08 | الأساطير الأدبية في الأدب المقارن بين الغربيين والعرب | مداخلة في ملتقى | أعمال “قضايا الأدب المقارن في الوطن العربي” بالقاهرة | 1995 م |
09 | ناصر الدين الأسد والمنهج التاريخي | دراسة | قطوف ذاتية مهداة إلى ناصر الدين الأسد | 1997 م |
10 | لمحة عن المقارنة في التراث النقدي العربي | دراسة | المؤسسة العربية للدراسات والنشر | 2000 م |
11 | أدب الأطفال والأدب المقارن | دراسة | مجلة اللغة العربية/ العدد 9 | 2003 م |
12 | أبو العيد دودو والأدب المقارن في الجزائر | دراسة | مجلة اللغة العربية، خريف 2004/ عدد خاص | 2004 |
13 | النقد الأسطوري والأدب العربي الحديث | دراسة | مجلة اللغة العربية/ العدد 14 | 2005 |
- عرض مركز مختصر للنموذج*:
جاء هذا النموذج في مقدمة وخمسة فصول.
في المقدمة حدد الباحث حياته الطفولية التي تشكلت منها فكرة الموضوع المتناثرة في بعض الأعمال الروائية المعالجة للفترة الاستعمارية([25]).
وفي الفصل الأول عرض تاريخ الوجود الفرنسي الاستعماري في المغرب العربي خلال ما يربو عن القرن من الزمان، ثم ميز بين ثلاثة أقسام تدخل ضمن صورائية الأدب المقارن، وهي الأفقي والرأسي والعكسي، مبينا أن بحثه يدخل ضمن العكسي الذي سيكتشف صورة دولة قوية في أدب دول ضعيفة([26]).
وفي الفصل الثاني بحث المقارن صورة الفرنسي والفرنسية بشكل عام في الروايتين الناطقتين بالعربية والفرنسية، فوجد أن معظم نماذجها المذكرة من خلال أفعالها، كانت مدمرة للإنسان في الجزائر وتونس والمغرب. بينما وجد أن نماذجها المؤنثة من خلال أفعالها دائما، كان جلها لا يمثل قوة هدم لإنسان المغرب العربي([27]).
وفي الفصل الثالث بحث بدقة في الرواية ذات اللسان الفرنسي عن حقائق تاريخية تحولت إلى متخيل روائي، فاستنتج صورا مرعبة يدخل جلها ضمن الجرائم ضد الإنسانية([28]).
وفي الفصل الرابع بحث بدقة أيضا في الرواية الناطقة بالفرنسية ماله علاقة بصورة المرأة الفرنسية في بلدان المغرب العربي فوجدها متحررة جميلة شهوانية، وهي قسمان: كارهة للعرب وعادية لا عنصرية فيها([29]).
وفي الفصل الخامس بحث المقارن صورة الفرنسي والفرنسية معا من خلال التقابل بين ما ورد في الروايات ذات اللسان العربي والروايات ذات اللسان الفرنسي، مبينا ظاهرتين هامتين إحداهما حضارية والأخرى فنية. فأما الظاهرة الحضارية فتتمثل في التأثير الكبير الذي أحدثه الاستعمار الفرنسي في معظم سكان بلدان المغرب العربي. وأما الظاهرة الفنية، فتتمثل في تفوق الرواية ذات اللسان الفرنسي في الجزائر وتونس والمغرب. بما تضمنته من السرد والحوار والتداعي والمناجاة وإبراز الأغوار النفسية على الرواية ذات اللسان العربي، باقتصارها على السرد التقريري والخطابية وتجاهل الأغوار النفسية([30]).
- قراءة نافذة للنموذج:
1.3. وسم المقــــــــارن عبد المجيد حنون دراسته بـــــ: “صورة الفرنســــي في الروايـــــــة المغربية” وهــــــو عنوان يحيـــــل على تحديدين دقيقيــن: “الفرنسي” أي المذكر، و”المغربية” أي في دولة المغرب الأقصى لا غيـــــــر. بينما محتوى الدراســــــة وعنوان ملخصها باللغة الفرنسية يذهبان إلى مـــــا هو أوسع مـــــن هذا كثير. إذ بحث المقـــــــــــــارن في محتوى دراستــــــــه صورتي الفرنسي والفرنسية في بعض روايات الجزائـــــــــر وتـــــــونس والمغرب، وحين ترجم ملخص هذا المحتوى عنونه بـــ: L’image du français dans le roman maghrébin متجاوزا التذكير والتأنيث، ومصححا التوصيف النسبي من “المغربية” إلى “المغاربية”. ومما لا شك فيه أن الأعمال الأكاديمية تحتاج إلى الدقة المتناهية في وسمها ومتنها.
2.3. الصورة التي تم بحثها اقتصر فيها الباحث على دراسة 31 رواية بينما كان عدد الروايات المغاربية التي وظفت شخصيات فرنسية، قبل زمن دراسة عبد المجيد حنون، قد تجاوز 100 رواية فنية. وهذا الانتقاء في المصادر جعل الصورة المستخلصة انتقائية بعضية خاضعة لاختيارات الباحث وليست كلية شاملة، تحركها الموضوعية فقط.
3.3. الرواية ذات اللسان الفرنسي التي استثمرها الباحث في مصادره كلها منشورة ما بين 1953م و1962م، أي أنها مرافقة للظاهرة الاستعمارية. بينما تم نشر الروايات ذات اللسان العربي التي اختارها ما بين 1964م و1976م، أي ظهرت بعد استقلال بلدان المغرب العربي، وبالتالي جاءت معقبة على الظاهرة الاستعمارية وليست مرافقة لها. هذا من حيث الفارق المفصلي في تاريخ كتابة الروايات، أما من حيث الفارق الجغرافي الذي تحركت فيه الشخصيات المدروسة فإننا نجد بعض الشخصيات النسوية ما رأت إطلاقا أرض البلدان المغاربية وإنما كانت لها علاقات بمغاربيين في أرض فرنسا أو أنها مرت مرورا عابرا سريعا بأحد بلدان المغرب العربي، وليست من الاستعماريين الاستيطانيين. وإذا ما أضفنا إلى هذين العاملين الاختلاف الفني القائم بين الروايات على أساس التزامها بهذا المذهب أو ذاك من المذاهب الأدبية السائدة خلال الربع الثالث من القرن 20م فإن النتائج المستخلصة تكون مختلفة جدا، وهو ما وصل إليه الباحث بمهارة بحثية عالية لكنه جانب الصواب في التعليل لهذه الظاهرة حين قال: “لقد اعتمد الروائيون المعربون في رسم صورهم على السرد التقريري المباشر ذي النبرة الخطابية… وجاءت صور الفرنسي واضحة ومقنعة ومؤثرة في الرواية المغربية الفرنسية نتيجة لتعدد أساليب الرسم… والغنى الفني عند المفرنسين والفقر عند المعربين لا يرجعان للأساليب نفسها بل يرجعان لثقافة الأولين الأدبية الرفيعة نتيجة تأثرهم بالآداب الغربية المتطورة… ولثقافة الآخرين الأدبية الهزيلة نتيجة عدم تأثرهم بالآداب الغربية المتطورة آنذاك واعتمادهم كلية على الأدب العربي الذي كان آنذاك سمته الكبرى الجمود نتيجة… مراكز تعليمية هدفها المحافظة على الثقافة الدينية كما ورثتها عن عهود الانحطاط لا غير”([31]) هكذا، جمود الأدب العربي في الثلث الأخير من القرن 20م؟! ومراكز تعليم هادفة إلى المحافظة على ثقافة دينية من عهود الانحطاط؟!… وهذه المقاربة المجانبة للحقائق التاريخية والموضوعية العلمية في نظرنا كان من أسبابها عدم الاهتمام بالمفعولات المختلفة لما تمت الإشارة إليه في العنصرين الحالي والذي قبله.
4.3. أثناء عرض الباحث لوقائع من مسار الاستعمار الفرنسي في بلدان المغرب العربي -إن تاريخيا من خلال أحداث حقيقية سجلتها المصادر، أو فنيا من خلال بناء الشخصيات التي اختار المتن المصور لها- لقد وقف على جوانب معتبرة من مدونة الجرائم الاستعمارية الفرنسية التي خطط لها ونفذها الجيش والإدارة والأقدام السوداء طيلة ما يربو عن قرن من الزمان، وهذا صحيح وهو قليل من كثير. والملاحظ هو أن الباحث لم يستثن إلا أسماء محدودة من الجرائمية الاستعمارية مثل بعض مشاهير الأدب في القرن 19م: ألفونس دوديه، وغي دي موباسان، وفيكتور هيجو، وهذا أيضا صحيح لكنه قليل جدا ولا ينقل إلا جزئية بسيطة من الحقيقة التاريخية الثابتة والمسجلة لعدم انخراط فئات هامة من الفرنسيين الأحرار في الظاهرة الاستعمارية*. وقد أوردنا هذه الملاحظة لكي يحافظ البحث العلمي مستقبلا على موضوعيته واستقلاليته بعيدا عن هيمنة التجاذبات السياسية وغيرها.
5.3. برغم ما أشرنا إليه من ملاحظات في العناصر السالفة، وبرغم إنجاز دراسة عبد المجيد حنون بعد مرور نصف قرن على ظهور اختصاص الصورائية الذي تنتمي إليه، إلا أنها جاءت بالجديد في زمنها، ومن ذلك الجديد ما يلي:
أ. اختار الباحث منهجيا الاتجاه العكسي الذي يدرس صورة الدخيل المهيمن عند المستضعف المغلوب، وهو ما يخالف ما كان سائدا في الدراسات الصورائية التي ارتكزت إلى زمن تلك الدراسة على الاتجاهين: الرأسي الذي يدرس صورة المغلوب عند المهيمن، والأفقي الذي يدرس صورة دولة مساوية عند دولة مساوية لها.
ب. خصص الباحث لتطبيقه المنهجي دراسة صورائية أكادمية قائمة بذاتها بخلاف ما كان قبله في النقد المقارني عند العرب حيث يرد التناول الصورائي عنصرا في كتاب أو فصلا منه في أحسن الأحوال. وبهذا كان عمله تمييزا للاختصاص عن غيره من اختصاصات المقارنية عند العرب ورسما لحدوده.
ج. من بين مختلف الأجناس الأدبية التي يبدع ضمنها أدباء المغرب العربي، ذهب الباحث إلى جنس أدبي جديد هو “الرواية” ولم يستثمر منها نصا أو بضعة نصوص كما كان يحدث سلفا عند غيره بل اختار 31 رواية، وهو اختيار فيه من السعة والتنوع ما يجعله أشمل من الاختيارات الضيقة.
د. من حيث لغة المتن المدروس وجغرافيته، لقد اختار الباحث اللغتين العربية والفرنسية في ثلاثة بلدان تكون نسيجا اجتماعيا وواقعا تاريخيا يكاد يكون واحدا، وهو ما أعطى للدراسة وحدتها وتماسكها وإمكانية تطبيق المنهج عليها دونما إقحامات قسرية كما حدث في الكثير من الدراسات النقدية عند العرب.
ه. غاية الباحث لم تكن الحصول على شهادة وكفى كما حدث ويحدث في تاريخنا الجامعي، وهو ما نتج عنه أضرار بالغة، وإنما بالإضافة إلى الشهادة التي هي تحصيل حاصل كان له هدفان كبيران أحدهما نقدي وهو التأسيس التطبيقي لتفريع صورائي بإمكانه أن يجعل الإنسان العربي المعاصر يكتشف كيف كان يرى الآخر المتعدد عبر تاريخه الثقافي الطويل، بما في ذلك من نقد موضوعي للآخر والأنا معا، والثاني ثقافي إشهاري وهو العمل على إيصال ما أنجزته أقلامنا المبدعة إلى غيرنا مع ترغيبهم في قراءته أو ترجمته أو تمثيله سينمائيا أو اقتباسه مسرحيا أو غير ذلك، بواسطة تحليل ما هو مفتاحي فيه بأسلوب أكاديمي قادر على الإقناع العقلي.
ختـــام:
مما سلف بحثه في هذه الدراسة المختصرة المركزة، يظهر أن الصورائية في الجزائر فتحت بابا متميزا في المقارنية العربية بمنهجها ومدونتها وهدفها، ولعلها بهذا شكلت مدخلا إلى عوربة الثقافة المحلية ثم عولمتها. وإذا ما أضفنا إليها الجهود المبذولة في مختلف فروع النقد الأدبي المقارن في الجزائر([32])، وما يوازيها ويتكامل معها في تونس بريادة محمود طرشونة، وفي المغرب بريادة سعيد علوش، يمكن القول إن الأدب المقارن في بلدان المغرب العربي يتطور نحو أفق معرفي منفتح على الجديد والمفيد.
[1] ينظر: مجلة “متون” المحكمة الصادرة عن جامعة سعيدة/ ع 4/ 2011. دراسة “تاريخ الأدب المقارن في الجزائر”/ د. بومدين جلالي.
[2] ينظر: “تأثير الحضارة الإسلامية في الكوميديا الإلهية” لدانتي/ د. محمد بن أبي شنب/ المجلة الإفريقية/ ع 483/ (La Revue Africaine) 1919.
[3] ينظر: “دفاتر جزائرية في الأدب المقارن”/ (Cahiers Algériens de Littérature Comparée) / الصادرة عن جامعة الجزائر/ ع 1، 2، 3 / 1966، 1967، 1968.
[4] منها: “تأثير الموشحات في التروبادور”/ د. عبد الإله ميسوم/ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع/ الجزائر/ 1981 (أطروحة دكتوراه دولة).
[5] منها: “موضعة جان دارك في الأدب العالمي”/ مخطوط/ جامعة وهران/ 1992 (أطروحة دكتوراه دولة).
[6] منها: “النقد الأدبي المقارن في الوطن العربي”/ د. بومدين جلالي/ دار الحمراء/ ط1/ 2012 (أطروحة دكتوراه).
[7] منها: “إشكالية الترجمة في الدب المقارن”/ د. ياسمين فيدوح/ دار صفحات للدراسات والنشر/ ط1/ دمشق/ سورية/ 2009 (أطروحة دكتوراه).
[8] منها: “نقد منهج الرواية الشفوية عند المستشرقين”/ أ. كريم بن سعيد/ مخطوط/ جامعة وهران/ 2010 (أطروحة ماجستير).
[9] منها: “العولمة وموقفنا منها”/ د. بومدين جلالي/ دار الحمراء/ ط1/ 2013.
* مصطلح “الصورائية” ترجمة للمصطلح الفرنسي Imageologie، الذي أطلقه غي ميشو في 1930، وقد ترجم أيضا إلى “الصورولوجية” و”صورة الآخر” و”علم الصورة”.
[10] “اللغة العربية”/ مجلة المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر/ عدد خاص/ خريف 2004/ مقال د. عبد المجيد حنون “أبو العيد دودو والأدب المقارن في الجزائر”/ ص 117/.
[11] “الأدب المقارن، أصوله ومناهجه وتطوره”/ د. طاهر أحمد مكي/ مكتبة الآداب/ ط4/ القاهرة/ 1422هـ ، 2002م/ ص 193.
[12] “الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان”/ د. أبو العيد دودو/ المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية/ ط2/ الجزائر/ 1989/ ص 6.
[13] المرجع نفسه والصفحة نفسها.
* المقصود بـــ ” المغربية ” هو سكان المغرب العربي وليس سكان المغرب الأقصى فقط.
[14] “صورة الفرنسي في الرواية المغربية”/د. عبد المجيد حنون/ ديوان المطبوعان الجامعية/ الجزائر/ 1986/ ص 11 (أطروحة ماجستير من جامعة القاهرة).
[15] ينظر: “الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان”/ د. أبو العيد دودو/ مرجع سابق.
[16] ينظر: “صورة الفرنسي في الرواية المغربية”/ د. عبد المجيد حنون/ مرجع سابق.
[17] ينظر: مجلة “آمال”/ ع 55/ 1982/ دراسة شريبط أحمد شريبط “صورة الفرنسي في أدب طاهر وطار”/ ص 10.
[18] ينظر: “أعمال الملتقى الدولي حول الأدب المقارن عند العرب”/ جامعة عنابة/ 1983/ محضرة د. محمد صبح “صورة العرب في الشعر الإسباني”. ‘محمود صبح: فلسطيني كان أستاذا في الجزائر وحمل جنسيتها).
[19] ينظر: “صورة الشرق في أدب فولتير المسرحي والقصصي”/ عيسى بريهمات/ مخطوط/ جامعة وهران/ 1984 (أطروحة ماجستير).
[20] ينظر: مجلة “كتابات معاصرة”/ ع 37/ أيار، حزيران 1999/ دراسة د. عبد الواحد شريفي “قصص فولتير، صورائية الصحراء العربية، زاديج أو القدر”.
[21] ينظر: “صورة الصحراء الجزائرية بين إيتيان دينيه وإبرهارت”/ عثمان بلميلود/ مخطوط/ جامعة وهران/ 2001 11 (أطروحة ماجستير).
[22] ينظر: “اليهودي في الرواية الفلسطينية”/ د. حسين أبو النجا/ منشورات رابطة إبداع/ دار هومة/ ط1/ 2002. (أصل هذا المؤلف أطروحة دكتوراه من جامعة الجزائر ومؤلفها أستاذ فلسطيني يحمل الجنسية الجزائرية).
[23] ينظر: “صورة الجزائر في مخيال الآخر، لدى الأدباء الفرنسيين في القرن 19م”/ محمد أغامير/ مخطوط/ جامعة وهران/ 2014 11 (أطروحة دكتوراه).
[24] ينظر: “معجم أعلام النقد العربي في القرن 20م”/ منشورات مخبر الأدب العام والمقارن/ كليم الآداب والعلوم الإنسانية/ جامعة باجي مختار/ عنابة/ ص233.
* النموذج بحث أكاديمي لنيل الماجستير من جامعة القاهرة (1975 – 1979)وهو دراسة صورائية في 31 رواية (15 بالعربية و16 بالفرنسية) من الجزائر وتونس والمغرب.
[25] “صورة الفرنسي في الرواية المغربية”/د. عبد المجيد حنون/ مرجع سابق المقدمة من ص 05 إلى ص 12.
[26] نفسه/ الفصل الأول من ص 13 إلى ص 99.
[27] نفسه/ الفصل الثاني من ص 101 إلى ص 202.
[28] نفسه/ الفصل الثالث من ص 203 إلى ص 329.
[29] نفسه/ الفصل الرابع من ص 331 إلى ص 404.
[30] نفسه/ الفصل الخامس من ص 405 إلى ص 489.
[31] نفسه/ ص 466 إلى ص 476.
* من بابب التمثيل على وقوف أحرار فرنسا ضد الظاهرة الاستعمارية نذكر “مايو” و”أودان” اللذين ماتا تحت التعذيب دفاعا عن سيادة الجزائر، و”فوتييه” المناضل السينمائي الذي رافق الثوار ونقل آلام الشعب الجزائري إلى العالم، و”فرجيس” المحامي الذي دافع عن رموز النضال الثوري ومنهم “جميلة بوحيرد”، هذا وإضافة إلى “حملة الحقائب” في أرض فرنسا الذين نقلوا مساهمات العمال الجزائريين المغتربين إلى قيادات الثورة الجزائرية، والكثير منهم من سجن أو سقط في ميدان الشرف التزاما بمادئه الداعمة للحرية.
[32] ينظر: مجلة “التبيين” المحكمة الصادرة عن جمعية الجاحظية/ الجزائر / دراسة د. بومدين جلالي “اهتمامات الأدب المقارن في الجزائر”/ ع 29/ 2008