بقلم زينة بريطع
الاكتئاب اللبناني : إنفلونزا وطنيّة أم شبحٌ ينتهكُ الغد؟
مثالٌ على أغرب حالةٍ عاينتُها طوال مسيرتي المهنية في الطب النفسيّ: مُراهقة تُدعى: زهرة. أنا لا أنساها أبدا من بين جميعِ مرضايَ، هي الّتي دخلتِ العيادة بعيْنَيْنِ زائغتَيْن تشفّانِ فراغًا واكتئابًا مهيبًا. فوق السرير مدّدت زهرة بحركةٍ ثقيلةٍ من دون استئذان جسدها النحيل، كأني بها تحمله على مضضٍ وهو يرفض أن يحملها. وما هي إلا لحظات، حتى راحتْ أطنانٌ من المشاعر المتشابكة تهرُّ من فيها.
– “ما الّذي أَوْدى بكِ إلى هذا السرير أيتها الصغيرة؟! “
سألتُها بشكلٍ مباشرٍ -على غير عادتي مع سائر المرضى- فكان جوابها حشرجات متقطّعة، أنين متواصل مع حبال من الدموع، بلا كلمات! ثم أخذت ترتجف، تحاول النهوضَ، تقعد، تتصاعد أنفاسها، تصرخ، تتمدد من جديدٍ، وصارت فجأةً تضرب على أفخاذها بيدينِ خلتهما خريطةً جغرافية لكثرة ما شوّهتهما، من الأعلى إلى الأسفلِ، آثارُ الخدوشِ بل الشَطبات، ويبدو بوضوحٍ أنها مُفتعلَة، ومقصودة.
-“الله ياخد الاكتئاب ..الله ياخد البلد.. الله يلعن الحرب.. مكتوب علينا ما نتقدم بهالبلد؟!” نطقتْها بغضبٍ، بعد جهدٍ كبير.
ومن هنا قررتُ إنقاذها إذًا، لعلّني أنتشلُ نفسي من مستنقع هذا المرض الخبيث بينما أنتشلها.
فما هو الاكتئاب؟ ولماذا بات اللعنة الأولى، ومرض العصر؛ متصدِّرًا بأدويته مبيعات الصيدليات في بلادنا ، شاغلا-من حيثُ عدد مصابيهِ- مواعيدَ الأطباء النفسانيين؟
يعدُّ الاكتئاب المرض الأكثر انتشارًا وتوغلًا في الفئات العمرية الشابة لدى معظم الدول. وفي لبنان صار من الطبيعي أن تدخل الصيدليات لتكتشف أنّ غالبية الناس تطلب مضادات الاكتئاب، والمهدّئات، والمنوّمات، والعقاقير المُساعدة على الاسترخاء .ليس هذا -في حدِّ ذاتهِ- أمرًا غريبًا؛ بل الأغرب منه أنّ مسبِّبات الكآبة (والقلق) غالبًا ما تبتدئ تافهةً وصغيرةً إلى أن تراها تتكدّس تصاعديًّا على شكل تراكمات نفسية، تودي بالمُكتئب إلى الانهيار، بل الانتحار أحيانًا.. وهذا ما نشهده بنسبٍ كبيرةٍ بين طلاب المدارس على صعيد المثال لا الحصر .
قد يبدو لك ما قلته غير مقنعٍ ؛ بَيْد أنني عاينته شخصيًّا قبل سنوات حينما رأيت صديقتي(م.ك) ، ابنة السابعة عشرة ، مشطوبة أطرافها بشكلٍ أثار اندهاشي. وبُعَيْدَ إصراري على استجوابها، اعترفتْ بأنها تُحاول الانتحار تكرارًا .
إلى هذا الحد؛ فعل الاكتئاب ما فعل بمراهقةٍ عاشقةٍ تركها حبيبها وهو تلميذٌ في المدرسة ، في الوقت الذي كانت عالقة داخل حلقة مفرغة من المشاكل الزوجية التي تسمعها كل يوم ما بين أبويها! وذلك كان قبل الحرب.. فكيف بالشباب الذي عاينوا الحرب وويلاتها إذاً كأنموذج زهرة؟!
بشكل عام، نحن إذا ما سألنا مرضى الاكتئاب عما يحدث لهم من عوارضَ، ستكون إجاباتهم موحَّدة: ” حزن عميق، ضيق مستمر، أحيانًا لا مسوغ لهما”، أو “ما لِهذه الحياة تخلو من أيّ نكهة! كأنها عبثٌ على عبثٍ ..”
وبعضهم يجيبك:”هذا ما جناهُ عليّ أبي..” وعبثًا يحاول المعالجُ تذكيره بالأمل ، إذ لا يعترفُ به، بل يقدِّمُ إليك مسوغات قويةً تسحبكَ نحو سوداوية أفكاره . وقد تسمعه يشكو:( مخنوق .. شو هالعيشة الفاضية..أُريدُ أن أموت لأرتاحَ).وغالبًا ما يتنامى إليهِ الشعور بانعدام الذات فيجعله متغافلًا عن اهتماماته،ناسيًا مهاراته ، غير واثقٍ بقدراته ، مهملاً الأشياء التي كانت تجلب له المتعة من قبل. كذلك، يُرافق هذه الحالة شعورٌ بالذنب، وصعوبة في التركيز واتخاذ القرارات، قد تصل أحيانًا إلى التفكير الجادّ في إنهاء حياته.
(أما بشكل خاص، فنستطيع ان نستطرد لنقول إن الحرب في لبنان أثرت تأثيرً مباشرًا في معدلات الاكتئاب، ذلك مردّهُ إلى شعور الشباب اللبناني بالعجز حيالَ ما حدث وما يَحدث وما سوف يحدث عاجلًا أم آجلًا..)
أما من الناحية الجسدية، فقد يشكو المصاب من اضطرابات النوم( الأرق أو النوم المفرط)،وتغيرات في الشهية تؤدي إلى فقدان الوزن أو زيادته. وأصعب ما يعانيه هو التعب المستمر والإرهاق من دون سبب واضح، فضلًا عن الصداع وآلام في الظهر والمعدة، كما انخفاض النشاط العام. وتجدرُ الإشارة إلى أن استمرار هذه الأعراض مدة تتجاوز الأسبوعين يستدعي تدخلًا طبيًا لتقييم الحالة وتقديم العلاج المناسب.
أما أسباب الاكتئاب فمُتعدِّدة؛ ومن الطبيعيّ أن تكتئبَ، وترتعبَ، في بلادٍ خبزُها خوفٌ، وماؤها توترٌ وقلق، ونعاسُها توجُّسٌ وأرقٌ . وعلى أي حال، تلك الأسباب تختلف من شخص لآخر. أولها العوامل الوراثية التي تؤدي دورًا كبيرًا… إذ إنَّ تاريخ العائلة المرَضيَّ يزيد من احتمالية الإصابة به.
ثانيًا، التغيرات الكيميائية الدماغيّة تعد سببًا رئيسا: أي أن اختلال التوازن في المواد الكيميائية كالسيروتونين والدوبامين يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالاكتئاب.
ثالثًا، العوامل النفسية مثل التعرض لصدمات نفسية قوية، وفقدان شخص عزيز، أو المرور بتجارب حياتية صعبة ( الطلاق أو فقدان الوظيفة..)، كلها تساهم في ظهور الاكتئاب عند الشباب. إلى جانب ذلك ، هناك بعض الأمراض المزمنة (السكري أو أمراض القلب) ترفع مؤشر خطر الإصابة به، فضلًا عن تناول بعض الأدوية أو التوقف عن تناولها يمكن أن يكون له تأثير مماثل..
أخيرًا، أصبح من الخطأ التغاضي عن أنّ بحث الشباب عن قيمتهم الذّاتيّة، والتقلبات الهرمونية، والشخصية، والمزاجية التي يمرّون بها، هي عوامل مهمة بالفعل . كذلك نمط الحياة والعوامل البيئية المُحيطة بالشباب اللبناني -على وجه التحديد- مثل التوتر المستمر،(stress) ، العزلة الاجتماعية، أو ضعف الدعم الاجتماعي يمكن أن تكون أيضًا من مسبِّبات الاكتئاب الأساسية.
في نهاية المطاف، لا يسعُنا إلا أن نقول سوى إن الاكتئاب في بلادنا أصبح من المُسَلَّمات. لقد غدا مرضًا مستشريًا -وبشكلٍ معدٍ- كأنه ” انفلونزا وطنية-نفسية “. إنه شبحٌ يُضاجعُ – فعلًا -أحلامنا. يُطاردُنا في فنجان قهوتنا. وحشٌ يحاصرنا في وسائدنا ، وما زال ينخر يوميّاتنا من طريق هواتفنا بشكل خاص . إنه آفة العصر في المقاييس كلها، إن صحّ التعبير…
فمتى نحيا في بلادٍ يهمّها صحّة أبنائها وشبابها النفسية، وجودة حياتهم؟
مجمل القول: في لبناننا أبناء يشاطِرون العصافيرَ حُبَّ لبنان ومشاكله… وشبابٌ يتنافسون على لقب “الأكثر اكتئابًا” أو على أخذِ أكبر عددٍ من مضادات الاكتئاب والأمراض النفسية!
#زينة بريطع