السبت , مايو 17 2025
الرئيسية / جامعيون ومواهب / ذاكرةُ الحجارةِ الصامتة

ذاكرةُ الحجارةِ الصامتة

‬‏بقلم زينب علي حيدر 

ذاكرةُ الحجارةِ الصامتة: حكاياتُ المدنِ التي تمشي على أقدامِ الناسالحجارةِ

قد يبدو الرَّصيفُ تفصيلا باهتا مَنسِيَّا في مشهدِ المدينةِ الصاخب، مجرَّدَ ممرٍّ حجريٍّ نعبرهُ على عَجل، من دون أن نُلقي بالًا لما يختزنهُ من حكاياتٍ وأثرْ .لكنَّ الحقيقةَ أنَّ الأرصفةَ ليست حجارةً تُرصُّ على جانبِ الطريقِ فحسب، بل ذاكرةٌ صامتة، تسيرُ عليها الحياة، وتَطؤها أقدامُ العابرينَ بكلِّ ما يحملونهُ من فرحٍ، وتعبٍ وشتات،، لساعات وساعاتٍ وساعاتْ

في كلِّ مدينة، ممرّاتٌ صامِتة تشهدُ أكثر مما تقولهُ النشراتُ الإخبارية. الأرصفةُ لا تتحدث، لكنّها تحفظُ الوجوه، وتُدوّنُ في صمتها قصصُ العابرين، خطواتهم المتعبة، نظراتهم المطفأة، وابتساماتهم التي تقاومُ الانطفاء.

الأرصفةُ ليست حجارةٌ فقط، بل دفاترٌ يومية مفتوحةٌ للناس. هي السريرُ الأولُ للفقراء، والمسرحُ اليوميُّ للمارة، والمرآةُ الحزينةُ للمدنِ التي كبُرت على حسابِ الإنسان. على الرصيفِ يولدُ الحبَّ أحيانًا في لمحةٍ خاطفة، وتُزرع الكراهية في دفقةِ غضبٍ، وتُلقى الأحلام كأوراقٍ مهترئةٍ في سلالِ القمامة.

في مجتمعٍ يركضُ مسرعًا نحوَ الغد، صارتِ المساحاتُ الإسفلتِيّةُ الضَّيِقةُ موطِناً للمَنسِيِّين. كبارُ السِّن الذينَ يجلسونَ على المقاعدِ الخشبيةِ بِلا مَوعد، الباعةُ الّذينَ يحملونَ قوتَ يومهِم في عيونهِم، الأطفالُ الذينَ يلعبونَ بين السياراتِ بلا حَذر، والشَّبابُ الّذينَ يمرّونَ سريعًا، لكنَّ قلوبهم مثقلةٌ بألفِ سؤال.

لماذا لا نُصغي إلى ما تقولهُ هذهِ الزّوايا الصَّامِتة؟ لماذا لا نرى أنَّ بعضَ المدنِ لا تنام لأنَّ أطرافها تبكي ليلًا، من الوحدة، من الإهمالِ، من اللّامبالاة؟ المجتمعاتُ لا تُقاسُ بأبنيتِها الشَّاهقة، بلْ بقدرتِها على أن تجعلَ الرَّصيفَ مكانًا آمنًا للإنسان، كل إنسان، مهما كانَ حافيًا، ضائعًا، أو مُتعبًا.

الرّصيفُ، أو المَمَرُّ الذي نمشي فوقَهُ دونَ انتباه، مرآةُ حضارتنا. فإمَّا أن يكونَ شاهدًا على كرامةِ الإنسان، أو شاهدًا على موتهِ البطيءِ في قلبِ الزّحام.

لكنْ… هلْ سألنا أنفُسنا يومًا: من يسيرُ إلى جانبنا على هذهِ الأرصِفة؟ كمْ مِن حكايةٍ تَئنُّ تحتَ خُطواتِنا؟ هل يُمكنُ لمدينةٍ أن تُشفى إذا بكتْ شوارٍعُها بما يكفي؟ وهل نملكُ شجاعةَ التّوقّفِ قليلًا، لِنستمع، ونُصلحُ، ونحتضن؟
وإذا كانتِ الأرصفةُ تتكلمُ… فمتى سنُصغي؟