إعداد الأستاذ حسام محيي الدين
سعيد عقل شاعر الحداثة
لطالما عُرف سعيد عقل بشاعر الفرح والتفاؤل والمرأة والنرجسية والغزل ، ولكنه لم يوفَ حقّهُ شاعرا عاش هموم الحداثة الشعرية التي انطلقت منتصف القرن الماضي مع شعراء أفذاذ كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأدونيس ويوسف الخال وغيرهم ممّن حملوا هموم الحداثة في مفاهيمها المختلفة من القلق الوجودي ومصير الانسان إلى الشعور بالرفض والنفي وغربة الذات وغير ذلك من تلك الموضوعات المصيرية وقتذاك ، وهو ما يدفعُ بالضرورة الى إنصاف هذا الشاعر شعرياً كرائد حداثوي في الشعر العربي ، بمعزلٍ عن مواقفه السياسية التي اتخذها في حياته والتي لم تعد ذات أهمية بحثية اليوم .
ولد سعيد عقل في مدينة زحلة عام 1912 ونشأ ودرس فيها حتى المرحلة الثانوية. ” وخلافاً لما يظنه البعض لم تكن لديه أيّ ميول شعرية واضحة (1).عمل صحافياً في بداية حياته بالتوازي مع دخوله ميدان الشعر حيث بدأ بإنتاجه الشعري منذ العام 1930 فكانت أهم إبداعاته على التوالي : ” بنت يفتاح” 1935 : مسرحية شعرية
“المجدلية ” 1937 : ملحمة شعرية تاريخية مستوحاة من ” العهد الجديد”.
“قدموس” 1944 : مسرحية شعرية كلاسيكية أسطورية .
“رندلى ” 1950 ، “أجمل منك ؟ لا ” 1960 ، “أجراس الياسمين” 1971، ” كتاب الورد” 1972 “قصائد من دفترها” 1973 ، وهي دواوين غنائية رومنسية غزلية . كما أصدر ” كما الاعمدة” عام 1974 وهو شعر مناسبات في معظمه باستثناء قصائد قليلة في الذات ، ثم ينشر ” دلزى” عام 1991 وهي خماسيات من الحكمة . وغير ذلك فلسعيد عقل مؤلفات أخرى نثرية : “يوم النخبة” “كأس لخمر” ، ” لبنان إن حكى” . فضلاً عن “يارا” و ” خماسيات” وهما ديوانان شعريان باللغة اللبنانية المحكية إ بالاضافة الى مئات المقالات والابحاث والترجمات والمقدمات للشاعر المتناثرة هنا وهناك في كتب الادب العربي . أنشأ عام 1962 جائزة ” سعيد عقل” التي لا تزال تمنح حتى اليوم لمبدعين في الفن والعلم والادب .توفي سعيد عقل عام 2014 ودفن في مدينته زحلة .
عاصر سعيد عقل الشعراء الحداثويين وصادفهم الا أنه لم يتحدث مثلهم بل لقد قاومهم شعرياً فتأثروا به ولم يتأثر بهم ، وهم أنفسهم اعترفوا بذلك في غير مقام ومقال ، ولكن ذلك لا يمنع من وضع أعماله في مكانها الصحيح كإبداعات شهدت تحولات القصسدة الشعرية نحو الحداثة وينظر اليها الجميع على أنها من اروع الشعر العربي الحديث، بعيداً من المواقف الايديولوجية او السياسية للشاعر، تماماً كما أنصف الادباء والنقاد الغربيون شعراءهم ومبدعيهم في نتاجاتهم الادبية بعيداً من مواقفهم السياسية . (2)وهذا ما أحاول تفنيده في هذا البحث المتواضع من خلال دواوينه الشعرية الأربعة وهي على التوالي : قدموس – المجدلية – رندلى – كما الاعمدة – تعريفاً وتصنيفاً وتوصيفاً الى حد ما في عجالة لا بد منها لتتابع الدرس المنهجي في فكرة المدى أو الفضاء الحداثوي الذي ولدت وعاشت فيه هذه الدواوين موضوع الدرس ، وما إذا استطاع الشاعر المواءمة بين الكلاسيكية العربية في بناء القصيدة الخليلية وموضوعات الأفق الحداثوي الذي كان سائداً وقتذاك ، وكل ذلك في تبيان تفاصيل اللغة الشعرية والصورة والبناء الايقاعي في موسيقاه الداخلية والخارجية ، مع التأكيد على معجمه المستمد من علوم البلاغة في البيان والبديع والمعاني ، لأدلف منها الى الثيمة الاساسية للبحث التي تؤكــــد
( وربما تنفي ! ) نجاح الشاعر في تجسيد عناصر الحداثة التي انبثقت في عصره .
الدواوين الأربعة : الشكل والثيمة :
” قدموس” : مسرحية شعرية كلاسيكية أسطورية كتبها سعيد عقل منذ العام 1937 وأصدرها عام 1944 . وهي مأساة تتألف من ثلاثة فصول تتناول الصراع بين الواجب والحب . تبدأ المسرحية بقيام الإله زوش او زيوس بإختطاف أوربّ إبنة أغنّار او أشنّار ملك صيدون الى بلاد الاغريق ، حيث تبعها أخوها قدموس ساعيا” لتخليصها منه والثأر لشرفه وحفظا” لأمجاد بلاده صيدون . غير أن السبيل لذلك دونه مخاطر وأهوال إذ عليه أن يقاتل التنين الذي يحرس أوربّ في ” البيوسى” ويتخلص منه ليسترد أخته ، لكن القدر بالمرصاد حيث تنتهي المأساة بإنتصار الواجب على الحب فيقتل قدموس التنين ويقتلع أضراسه ليبذرها في الارض كما أمرته الآلهة فتنبت رجالا” أصبحوا فيما بعد نبلاء ثيبا او طيبا أولى المدائن التي بناها قدموس في بلاد الاغريق ، ويخسر أخته أورب التي افتدت وطنها وأهلها للحفاظ عليهما.
“المجدلية” : هي ملحمة شعرية نظمها سعيد عقل في قصيدة طويلة جداً ( مئة وعشرة أبيات) مستمدة من الكتاب المقدس ، العهد الجديد كتبها عام 1937 تتناول قصة إمرأة زانية عاشت زمن السيد المسيح وكانت أختا” لأليعازر الذي أحياه المسيح وأخت مرتا القديسة . أخرج منها المسيح سبعة شياطين فتابت وأصبحت تابعة” له ورسولة ، وهي التي سكبت عند قدميه قارورة الطيب وغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها ، وهي التي وقفت مع مريم العذراءعند الصليب وشاركت في دفن المسيح. وهي أول من شاهد القبر فارغا” وهرعت تخبر بطرس ويوحنا بذلك ، وهي كذلك اول من رأى المسيح بعد قيامته من الموت كما جاء في العهد الجديد .
“رندلى” : ” رندلى” هو ديوان شعر بالعربية الفصحى ، كتب قصائده سعيد عقل في فترة مبكرة من حياته ونشرها تباعا” في جريدة ” المكشوف” البيروتية في مطلع الاربعينات ثم قام بجمعها في ديوان واحد أصدره عام 1950 بعد أن أحدث فيها تعديلات على نصها الاصلي. هو ديوان مخصص للحب والغزل بمختلف أوجههما .
” كما الأعمدة” : كما الاعمدة” ديوان شعر نشره سعيد عقل عام 1974 ، تخضرمت فيه القصائد بين مناسبات عامة وخاصة في الوطنيات والبطولة والتأبين والذكرى لشخصيات مختلفة تاريخية : سياسية وادبية وتربوية ودينية واجتماعية رسمها بريشة المودة والمحبة والتعظيم ، وان تخللتها بعض هذه القصائد أبيات في الحب والغزل. الى قصيدتين في المرأة الحبيبــة المثالية التي يحلم بهـا ( نهر الذهب ) والعروس الجميلــة ( اجمل الاعراس) . وقصيدتــان ذاتيتــان : ( الهنيهة ) و ( على شاطىء الذات ) ، ولم يتأخر عقل في ادراج القصيدة الملحمية في قصيدته ( فخر الدين الثاني) التي بلغت 95 بيتا” من الشعر والتي يصف بها بطولات هذا الامير في مواجهة الاتراك ، ثم تراجعه وسقوط قلاعه واحدةً تلو الاخرى : لقد اصبح كسير السيف . انه الديوان الصرح الذي يتسع للجميع مدناً وابطالاً ، تأكيداً لعروبة ووطنية هذا الشاعر في تلك الفترة من حياته .
– البناء الإيقاعي :
أصرّ سعيد عقل في دواوينه على الوزن الخليلي المعروف في شكله ذي الشطرين ، مدركاً أن اتكاءه فيها على الشكل المقفّى العروضي الواحد بين القصيدة واختها لا يفسد في ود المعاني قضية ! وقد جاءت هذه الاوزان لتخدم رؤيته كشاعر متمكن ولَد ايقاعه الموسيقي داخلياً وخارجياً لكل قصيدة على حدة بالاستناد الى أساليب اللغة البلاغية ، بما يسهل على المتلقي تتبع تفاصيلها وفهم مغزاها . فالوزن العروضي في الشكل هو اساس الموسيقى الخارجية للقصيدة ، وهو شكل لا سهولة فيه لمن اراد انتقاءه ليتناسب مع ما يريد قوله ، الى أن تأخذ القصيدة مجراها في التأثير والقبول لدى الذوق العام.
أما الموسيقى الداخلية فهي الايقاع الفطري اي النغم الخفي المستور الذي يكرس علاقة الانفعال المحمودة والمطلوبة بين الشاعر وجمهوره : فنغم يثير الحزن وآخر يبعث الفرح وثالث يوقظ الحنان ورابع وخامس وهكذا في تنوع الجرس الموسيقي بين القصيدة والاخرى . وهي موسيقى لا تتأتى من عدم ، انما تتولد من شطارة احتيار الكلمات التي تنساب في تآلفها وتتسق في غناها الصوتي القائم على كل حرف فيها : فللسين همس ، وللالف مد ، وللجيم الصوت الجهوري ، وللدال الحكمة والتروي ، وللراء العمق ، وغيرها من الاحرف التي تلاءمت اسرارها مع صفاء مشاعرالابداع السعقلي في دواوينه التي نتناول ، مما لا مجال هنا في ادراجه كله .
فاستعمل البحر الخفيف في ” قدموس” الذي يعد من أجمل وأسلس بحور الشعر العربي والذي قيل عنه سابقاً أنه سمّي بذلك لخفّته في الذوق . وهذا البحر ولّد الايقاع الخارجي او ما يعرف بالموسيقى الخارجية في “قدموس” على الرغم من استخدام بحر الرمل في أناشيد الجوقات في هذه المسرحية الشعرية وهو الامر الذي لم يضرب البنية الايقاعية للشعر المسرحي بل رفدها بحيوية وتنوع مدهشين ،أما الموسيقى الداخلية فتنجلي بوضوح في إختيار الشاعر للكلمات المتّسقة مع المعاني متوخياً التأثير النفسي في الجمهور بحيث لا يجد هذا الاخير حرجاً أو صعوبة في فهم الحبكة المسرحية ، مما يشكل وحدة جوهرية بين المتلقي وأفكار الكاتب ، وحدة تكونت نتيجة هذا الخلق الابداعي الداخلي الذي راعى فيه الشاعر الذوق العام من خلال الشكل العامودي للمسرحية الشعرية .
وكما استخدم الشاعر البحر الخفيف في “قدموس” فقد اتكأ عليه في ” المجدلية” أيضاً معتمداً فيها التسلسل المنطقي للاحداث وفق رؤيته هو كشاعر متمكّن ، بلغة الشعر الكلاسيكي العامودي على البحر الخفيف ، الذي ولد الايقاع الخارجي للقصيدة في غنائية مفرطة الى حد ما، دون أن يقف الالتزام بقواعد العروض الصارمة عائقا” أمام انسيابية تلك المشاهد والمواقف ، مع الوفاء الى حد كبير للنص الديني الاصلي فيما يتعلق بحياة المجدلية ، وايصال الفكرة الاخلاقية من هذه الملحمة وهي التوبة التي أنعم الله بها على المجدلية فكوفئت بالفرح والقداسة ، بما يحمل ذلك من دفع للعقل الانساني الى ضرورة اعتماد نمطية التسامح والمحبة وفكرة الالتقاء والود بين بني البشر . وليس خفيا” أن سعيد عقل يمجد المرأة في اعماله وهذا ما ظهر في المجدلية التي لم يصفها بالزانية ابدا” في قصيدته الطويلة من اولها الى آخر بيت فيها، حتى أنه لم يتغزل بها بإباحية ابدا” فهو الشاعر العفيف في غزله والسامي دون اسفاف ولا ابتذال . على أننا لا نستطيع نفي صفة الصناعة وفكرتها البادية في القصيدة فسعيد عقل اتخذ الشعر وظيفة” وغاية وليس فقط مادة” للقراءة الممتعة ، وهذا ليس عيبا” ولا انتقاصا” من قدرته العفوية الكبيرة والمتمكنة في نظم ملحمته الشعرية التي تعكس الخيال الخصب والالهام المتوهج للشاعر الزحلاوي والتي تأخذنا أثناء قراءتها من قاع السكون الى ذروة الصخب ، من حزن الى فرح ، من ذبول الى تفجر ، من انكسار البشر الى صفاء الالوهية ، وباختصار من الحلم الجميل الابيض الطموح ( مريم ) الى ” أفق الفكر” والحقيقـــة ( يسوع ) : هامـــــت الآن مريـــــم ويســــــوع فــــــي ظـــــــلال الافنـــــــان والأوراد يشربـــــان المســـــاء مـــــن جعــــدة الاردنّ مـــــن هبّـــــة النســــيم النــــــــادي
وفي ” رندلى” تنوعت البحور الخليلية بتنوع القصائد ، غير أن الرجز هو الاكثر استعمالاً في هذا الديوان الذي تبرز فيه علاقة سعيد عقل بالشعر كحب متبادل يكتنفه الابداع والسحر والجاذبية وكسمة جمالية شكلت جدلية شعرية فريدة في انصهار وجدان الشاعر الاصيل بأبجدية الشعرالاصيل وقتذاك. ويختلف رندلى عن المجموعات الاخرى التي كتبها سعيد عقل ، فهو ديوان ذو ملامح رومانسية ، بما فيها من حساسية وعاطفة وحب للطبيعة : انظر قصائد “أحبك” ،” لربّما” ،” خمر العيون” ،” اجمل من عينيك” … الخ . مع رندلى زخرف سعيد عقل الوعي الادبي والذوق الجمالي للناس في عهده مستنداً الى البنية الايقاعية للوزن العروضي الكلاسيكي ومجسداً مقولة أنه لا يكفي التنكر للشكل القديم للقصيدة لكي نلبس العمل الفني ثوب الحداثة.
أما ” كما الاعمدة” فقد تجلى إصرار الشاعر فيه على المضي في الشكل العروضي على بحور الشعر المعروفة حتى الأخير فاستعمل الخفيف والرمل والبسيط والطويل والسريع والكامل والمتقارب فإالى المديد ومجزوئه، . لكن أهم البحور التي مال عقل اليها هي : الطويل والبسيط لاحتمالهما الفكرة الجادة الرصينة في النص الشعري وتأكيد الاتساع التعبيري الذي يؤمنه عدد التفعيلات في كل منهما الى حد كبير : انظر قصائده: ” من شاعر ” في ذكرى الاخطل الصغيــــــر( البسيط ) وقصيدته ” كلامي على رب الكلام ” في احتفال عاشوراء في بعلبك (الطويل) وقصيدة ” تكسرت الاسياف ” في يوم امين تقي الدين ( الطويل) كذلــــك ” ملك لك العصر” في خليل مطران ( البسيط) . كما احسن اختيار الخفيف التي يخدم النفس الثوري العالي النبرة في القصيدة ومنها : قصيدة فخر الدين الثاني ( الخفيف) والرمل الذي هو من اسهل البحورواسرعها في النطق والحفظ حيث كتب عليه قصائده في دمشق الشام :سائليني \ نسمت من صوب سوريا الجنوب \ شام يا ذا السيف \ مر بي \ قاصداً خدمة الايقاع التأثيري للدخول في ذاكرة المتلقي بما يسهل حفظه فلا ينسى .
الذي أريد أن أقوله : إن سعيد عقل لم يصدر في اختيار أبحره العروضية عن عشوائية متفلّتة إنما عن مناقبية شعرية تنطلق من ملاءمة البحر الخليلي للغرض او الثيمة المراد إطلاقها إيقاعاً فطرياً يتسلّل الى كنه الذات الانسانية للمتلقي عبر الكلمات والتراكيب التي طوعها هذا الشاعر في أحايين عدة متلافياً تكرارها الخشبي كما هي خلال قرون خلت مع التمسك بأصالته كشاعر عربي .
3-اللغة الشعرية والصورة:
ترتبط اللغة الشعرية بثقافة الشاعر، فهي في الدواوين الاربعة ترجمة لاطلاعه الواسع على مندرجات اللغة والفن والدين والفلسفة ، لا بل تأثره الكبيربها . هذا التأثر الذي بدا في الحقول الدلالية التي تأتّت من العلاقة الطبيعية مع منظومة المفردات والتراكيب اللغوية المترابطة، وهي علاقة تعتمد الصورة الشعرية كوسيلة رئيسية في نقل مضمون العمل الفني الى الجمهور عبر المكونات المعروفة في علوم البلاغة كالبيان والبديع وعلم المعاني والتي لا غنى عنها للشاعر في إبداعه، والتي تبلور لنا صورة شعرية صافية بحيث تبدو كحديقة غناء بشتى صنوف الازهار والورود الملونة ، تستدرجنا للتنزه فيما بينها والنهل من سحر بلاغتها الخلّاقة : فالشاعر يوظف الكلمة لتحقيق مرادها الأهم الا وهو توسيع دلالات الديوان وايحاءاته ، فكلما تعددت الالفاظ تنوعت تلك الحقول الدلالية واتسعت لديه ، ورغب القارىء فيها باطمئنان وسكون . فقصيدة سعيد عقل ليست جبلاً يصعب تسلقه ، انما هي درب يسير يمكن الركون إليه في ادراك السهل الممتنع حيناً ، والمنحوت الصاخب حيناً آخر ، وفي كلتا الحالتين وفي كلتا الحالتين فإنها لغته الخاصة التي تعرف للقاصي والداني بمجرد قراءتها ، والتي تنسجم مع المزاج الخاص للجمهور المتلقي .
فأول ما يطالعنا في دواوينه الاربعة لغة الرمز التي عرف بها سعيد عقل ، حتى لقد عدّ أبا” للرمز في الشرق العربي في حينه ، وهو ما تجلت ملامحه الواضحة في أوجه عديدة أولها إختيار الشخصيات الاسطورية التي يرمز كل منها إلى فكرة سامية ففي ” قدموس” جاءت الشخصيات لتخدم التوجه الرمزي : فأوربّ رمز الجمال والحب ، وقدموس هو رمز العنفوان والبطولة وكلاهما أعطى الغرب هذه المعاني كرسالة أخلاقية ، أما مرى أو ميرا فهي رمز الحنان والعطف على ربيبيها والوفاء لهما وللبنان ، أما الاعمى او العراف فهو رمز للخبث والمكر واثارة الفتنة ، وزيوس هو المعتدي الذي جاء من الغرب ليضرب صيغة الأمان والمحبة في صيدون ، ويبقى التنين الذي هو رمز للشر والدمار . ولو تبحرنا بين الكلمات والتراكيب في المسرحية لاكتشفنا مدى ودقة الكثافة الرمزية والايحائية فيها.
يقول سعيد عقل : …. يا خطى سد”ى حثّها اليأس فأبقت في صفحة الرمل وسما
زبد البحر واقف منه بالمرصاد والدهـــر منجـــل ليس يعمـــى
قدر فوقنا …….
هنا يبدع عقل فيرمز الى الضعف الذي يعتور أوربّ : خطى سدى .. اليأس … الوسم أو الاثر البسيط على الرمال … قدر فوقنا… كلها ترمز الى أرضية هشة لا تكاد تحتمل الخطوات البائسة والمتهالكة لأورب السليبة الارادة ، والتي يستعد الدهر لتنفيذ مشيئة وقدر الآلهة في مصيرها . إلى جانب الكلمات المفردة في السياقات المختلفة في المسرحية والتي تحمل كل منها دلالة” خاصة في الحب والعنفوان والقوة والفكر والحزن وغيرها : ” مزجّج ” التي ترمز للحسن ،” أغدو خنجر” التي ترمز للغدر،”صرع الوحش جبنا” ” التي ترمز للهزء من بطولة قدموس .
وفي ” المجدلية” أينما تصفّحت تجد رمزاً موحياً بفكرة أو مبدأ او نظرة أو تأمل ما :
وتهادت إليه فالأرض في الرعشة تلقى الجمال قرب الألوهة
إنها المجدلية ويسوع : صنوان تهتز الارض لمجدهما اذا ما التقيا ، وما محاولة المساواة بينهما الا الرمز الأول في البيت أعلاه . وقوله : عند شاطي الأردنّ بين الخميلات تلاقى يسوع والمجدلية ….
إنهما رمز الطهارة بين المرأة التائبة والقداسة ، فضلاً عن تكريس معاني الخير والجمال والطهر والمحبة في كلتا الشخصيتين .
أما في ” رندلى” فيخلق سعيد عقل كلماته القائمة على الحدس أي الدلالة التي لا تتركنا يخلق سعيد عقل كلماته القائمة على الحدس أي الدلالة التي لا تتركنا نطمئن الى معنى نهائي لها ، انما تجعلنا حائرين غير مستقرين في فهمها . فالدلالة عنده لا محدودة ، وغير مقيدة بفهم واحد ، انما متعددة القراءات بتعدد المكونات الثقافية المتباينة بين الواحد والآخر . انه ياخذ من التراث الادبي العربي لباس القصيدة الكلاسيكي في القوافي والبحور كبناء جاهز في الشكل ، ولكنه يسعى بعين المبدع الى خلخلة النسق الشعري المتوارث والتقليدي في تناول الاغراض والمواضيع الادبية التي يطرقها بلغة حديثة سهلة تواصلية ، تصرف من خلالها بالشكل العروضي الذي لعب بأوتاده وأسبابه داخل الوزن الواحد في اكثر من قصيدة دون الخروج عن حقه كأديب في ذلك التصرف ، فاستعمل مجزوء الكامل ومجزوء الخفيف ، فضلا” عن الاوزان الكاملة العديدة التي استخدمها كالمديد والبسيط والسريع . وكغيره من الدواوين والابداعات الشعرية يصطفي سعيد عقل لنفسه وتحت مسوغ النرجسية أجمل خصائص الصور الشعرية التي بنتها انماط البيان والبديع كالاستعارة والكناية والتشابيه …الخ.
ويبقى” كما الاعمدة” الذي تتوهج فيه اللغة توهج السنا في كبد السماء المظلمة ، فهي عفوية المنشأ في صناعته الشعر ، وملكة تجدد ذاتها بذاتها . فكلما اغترف منها زادت تفجراً وألقاً ، مانحةً اياه القدرة على ابراز جوانيته النفسية من جهة ، وبثها الى من حوله لغةً ثرى بالالفاظ والتراكيب من جهة اخرى .، فلقد تزعم المدرسة الجمالية في شعره فمن فرح الى حزن الى نشيد وغناء ومن طفولة وطهر الى بطولة وكبرياء ،راصفاً في كل ذلك ألفاظه المنتقاة في انساق دلالية أعطت لكل ذي حق حقه من ألق الابداع السعقلي : فالمرأة في مفرداته هي قرينة الكرامة الانسانية التي ترتفع بها عن درك الاسفاف والابتذال الى الاحترام الملائكي :
ملاكه هي ، ان دسّت اناملها بين الورود استحى لها وارفض (قصيدة أجمل الاعراس)
كما انها الشقراء كالشعاع ، والتي يود لو يحبسها في قلبه، والتي تذكره بوالدته في عرسها يلف خصرها زند أبيه .
هو حقل دلالي خاص بامرأة عفيفة ، مدللة ، سامية ، سمو تفكيره بالنساء ، ربما وفاءً لوالدته التي أحب وتأثر بها منذ صغره ، وهو الذي لم يعرف عنه عشقاً لامرأة بعينها . الى حقول دلالية اخرى في ديوانه
فالبطل هو الانسان المؤمن بوطنه ، المضحي والمخلص لأمته والعظيم في عنفوانه :
اهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم اذا تطلع صوب السفح عدوان (قصيدة لي صخرة)
والصديق الوفي :
سيبقى لك النسج الذي انت ربه وللشمس نسج كل ما دونه بال (قصيدة اللون الآخر )
والمعلم :
قرأت كتاب الكون سطرا محا سطرا معلم عد فاكتبه أجمل ما يقرا (قصيدة المعلم)
والمدينة التي أحبها : دمشق ومكة . وان كانت حصة الاولى أكبر في ديوانه فلقد مزج في لغته الجميلة بين حبيبته والشام . فقام باسقاط مفهوم الحبيبة عشقاً وجمالاً على دمشق الشام في قصائده الاربعة في الديــوان ( نسمت – سائليني – شام يا ذا السيف – مر بي ) لتصبح هذه الاخيرة هي الحبيبة التي غنتها فيروزبصوتها السماوي ، وليختلط علينا مشهد الحب فلا ندرك من هي الحبيبة الحقيقية !
انها حقول دلالية كثيفة الصور اندرجت كشخصيات أثيرة في الديوان أبدعها في جمله الشعرية المنسابة في عفوية المقتدر الذي تمرس في أساليب البلاغة ناسجاً من معينها تراكيب مبدعة لطالما عرف بها عبر تجربته الشعرية الغنية ليصل الى قلب وعقل المتلقي بيسر وسلاسة . ففي الاساليب البلاغية أدرج الشاعر كافة مكونات وفنيات الصورة الشعرية التي تخدم دواوينه من بيان : تشبيه – استعارة – مجاز- كناية . وبديع : طباق – جناس- تورية – غلو – …. ومعاني: الخبر والانشاء – التقديم والتأخير –الايجاز … الخ الى الصرف والنحو في مختلف مناحي البنية الشعرية التي جاءت من النحت والاشتقاق وتليين المفردات في أنساق رشيقة قدمت لنا حللاً شعرية تجديدية للّغة الأم عجز عن استحضار غناها سابقوه ولاحقوه من الشعراء الى حد كبير .
يقول في ” قدموس” : ” … اليد الأهلّت … نحن الكاتبو … ألسّخت …” إدخال أل التعريف على الفعل ، ويقول: نزرع المدن … جزركم … جزرنا… محركا” أحرف الدال والزاي بالسكون، وهو جمع صحيح لغويا” لم يتلقفه أحد غيره من معين العربية الا ما ندر. وفي التشبيه : جوف كالقبر .. ضحكة مرنّة كالسهم…كرعد في الفرائض الخ … والاستعارة : نجمة تمر ببال … مشى في غمامتين… تقديم النعت على المنعوت : ضاحكا” وجهها … مرةّ لفتتي … والمجاز : ادفعي الموت عني… كان دنيا… طواه الردى… والكناية : بين ريف وجفن .. فؤادي يقطر شرفا” عندما يسلّ..والطباق: نور – دجى / بالهدم بان / ماتت فما تحيا/ … والجناس : ساحقا” ماحقا” … حامي حماك … وعدها والوعيد… والجمل الاعتراضية الكثيرة . كذلك كلمات : بسّل … أمنيّتيك… أيّهذي…وهي مفردات صحيحة جاء الكاتب ليمنحها خصوبة الحياة وحيوية الاهتمام في تحولاتها الصرفية بين المفرد والتثنية والجمع.
أما في ” المجدلية ” فالبلاغة ظاهرة في تراكيب الابيات الشعرية في الكم الهائل من الاستعارات والتشابيه والكنايات والطباق والجناس وغيرها من ألوان البيان والبديع التي برع فيها سعيد عقل ايضا”: فتى الطهر – لذة الوصل في سرير الحياة ( كناية ) يهدم الحب جفنيها- يشربان المساء – زهرة اللذائذ – ( استعارة) تتكي رحمة العلى – يا ربيب الخيال – يا أفق الفكر- باسط الجفن ( مجاز ) مخضّب ببياض – يطهر الطرف … عهر – هدمــت وابتنـت ( طباق ) نديان جسم مخضوضر – نشيدا”… أشعارا” – ( جناس) الى جانب ظاهرة التكرار الذي هو من علامات الجمال البارزة في الصورة الشعرية ، فصفة البياض تكررت تسع مرات في القصيدة بشكل متبادل بين مريم ويسوع في مواقف مختلفة : فهي المرأة البيضاء ، والفكرة البيضاء ، وذات الجبهة البيضاء ، وهو فتى الطهر الابيض … الخ… كذلك كلمة النور ومندرجاتها التي تزاحمت هنا وهناك في القصيدة: صحو أضاء … بهي السنى …استلان الضياء…رأت النور…تلألأ ثغر… اتكاء السنى… وغيرها من الالفاظ المتكررة التي تضفي حيوية عامة على الصورة الشعرية ونوعا” من الموسيقى اللفظية . إنه باختصار: المستوى السمعي/ البصري الذي يتساوى مع المستوى التخيلي لدى سعيد عقل ، فأنت اثناء قراءة هذه القصيدة في صورها المتعددة الدلالات من اللذة الى الحب فالفرح فالقداسة تستطيع ان ترسم صورة خاصة ما لجسد مريم المجدلية من خلال الخيال المترسب في ذهنك عن المرأة بشكل عام . تماما” كما أنه من جهة اخرى يسهل لنا تصور مشاعر مريم المختلفة التي عاشتها خلال مرورها بتلك المراحل المتعددة ، وهي مشاعر بالكاد تمسحها لمسة حزينة لا تكاد تذكر في سياق الابيات الشعرية المتلاحقة تتفق مع ميزات شخصية الكاتب كشاعر خلق للفرح.
والى ” رندلى” حيث زخرف سعيد عقل الوعي الادبي والذوق الجمالي للناس عهدئذ ، وأخرج دلالات المرأة والحب من نمطيتها السائدة وألبسها لباسا” عصريا” دون اسفاف ، فهي الجميلة العفيفة ، زوجة” كانت او اختا” او أما” او بنتا” فلو تناولت قصائد عديدة في ديوانه واسقطت عليها صفات الزوجة او الام او الاخت لأصبت الحقيقة وأجدت الاختيار . فقصيدة : ليلة تجتازين بستاننا ، وقصيدة انت واليخت وان نبحرا هي قصائد للحبيبة ولكنها في أوجه عديدة تصلح ان تقال للام والزوجة والاخت والابنة دون تلك الحبيبة ، ففيها صفات الجمال البلاغي في صوره الزاهية التي تصف الاشياء من ورود وياسمين ونجوم وبساتين الخ أو الانسان : الضحك ..الموعد.. شقرة الشعر، الفتون الخ ..
أما ” كما الاعمدة” فكل عبارة لديه تطمح الى طلب المستغرب العجيب المحبّب من منحوتات الجذور اللغوية الاصيلة التي اتقنها دون غيره مما طبع شعره بخصوصية فنية في معجمه البلاغي :
فمن الاستعارة : وجعت صفصافة – ظمىء الشرق – تفتحت السماء جوداً
والتشابيه : الشمس لنا كرة – الارض وردة – المجد غلام –
والكناية: سماح الكف – صرت انا الندى –
والمجاز: ذكرهم وسام – الليل تعبان – الليل يشقى –
والطباق : القبل الى البعد / القول – الفعل / يشرّق – تغرّب .
والجناس: الغرد – الفرد ( جناس غير تام ) / كالهند سر الهند /( جناس تام))
وتقديم النعت على المنعوت : الخرَد الفكر . –
وغيرها من تصانيف البيان والبديع التي لا غنى للشاعر عنها في تقديم ابداعه الشعري للناس ، وهي وان كانت مهمةً صعبة الا انها مما تمرس فيه شاعرنا بتجربته الشعرية الدالة على عمق ثقافته اللغوية ونضجه الفكري معاً ، وهو ما بان في كثافة صوره الشعرية التي تعد ابرز وسيلة فنية لنقل تلك التجربة اعلاه . فلقد مرت الصورة لديه بانواع عديدة من التطور في الشكل والمفهوم : بطولة وحب ووفاء ونرجسية وغير ذلك من ما يساير مختلف الذواق لمختلف طبقات الجمهور. انها الصورة التي جسدت وحدات متفرعة متعددة الاوجه في القصيدة معتمدةً البلاغة ومندرجاتها التي ذكرنا آنفاً للوصول الى الوحدة العضوية الكاملة المنشودة في النص الشعري العام.
4-عناصر الحداثة :
أ – حداثة ” قدموس” :
مزج سعيد عقل بين الاسطورة والتراث الوطني اللبناني في لوحة نادرة من العنفوان والانتماء الى الوطن ولا شيء غير الوطن، فهو وان كان نرجسيا” في جوانب من مسرحيته ، عبّر بصدق عن ضرورة التعلق بالأرض والدفاع عن النفس من خلال الوطن حفاظا” على الوجود وتثبيت هويته الانسانية والثقافية وهي صفة لطالما شكلت هاجسا” وجوديا” للشعراء والمبدعين الحداثوين في تلك الفترة وما بعدها .
ولعلّ من أبرز مظاهرالحداثة في ” قدموس” رؤيته البانورامية الكونية الشاملة للعالم من حوله، فهي يقدم لنا انموذجا” للانفتاح على حضارات العالم من خلال التراث الاغريقي الذي دونت فيه اسطورة قدموس و الذي هو تراث عالمي يعرفه القاصي والداني .
كذلك فإن موت أوربّ في نهاية المأساة والذي هو بداية إنتصار أخيها قدموس ما هو الا تعبير عن رمزية الموت والانبعاث التي شكلت محورا” هاما” من محاور الشعر الحديث.
أما حيرة أورب بين حبها لأخيها وحبها لزوجها فهي سمة التشظي التي طبعت الانتاج الابداعي لشعراء الحداثة وهو ما تجلى ايضاً في قدموس سعيد عقل .
كما يبدو أثر الحداثة في القدرة على تقديم الكم الهائل من البديع والبيان والمعاني والصرف والنحو في المسرحية دون عجز أمام قيود واحكام البحر العروضي الكلاسيكي ، ضاربا” بذلك مثالا” يحتذى في إثبات أنه لا يكفي التنكر للشكل القديم للقصيدة لكي نلبس العمل الفني ثوب الحداثة.
ب – حداثة ” المجدلية ” :
إستحضار الامثولة التاريخية من ينابيعها الحقيقية ليلبسها ثوب التجديد في قالب شعري مميز عجز عنه سابقوه ولاحقوه ممن تقلدوا يراع الكلمة. وهو في ابداعه ذلك يقدم لنا مساحات واسعة من الارتباط والتأثر ايضا” بالقضايا والافكار الحداثوية التي شغلته في زمنه كإنسان يرى العالم من حوله ملعبا” كبيرا” لا يكاد يتسع لابداعاته الشعرية ، فهو شاعر المجد المسكون برؤية كونية شاملة تحاول تثبيت مفاهيم جديدة تقوم على اقامة التكامل بين الانسان وخالقه اي بين العبد الصالح التائب الذي يطمع في غفران الخالق ورحمته ، وبالتالي معرفة وتحديد مصيره الوجودي أي فكرة الخلاص وهي اشكالية لطالما شغلت الشعراء في العصر الحديث .
والى ذلك فإن سمات الحداثة الشعرية تظهر في صورة المجدلية المطابقة لصورة البغايا اللواتي كتب فيهن شعراء الحداثة بعطف ورحمة كونهن وقعن ضحية الفقر والبؤس والاستغلال .
أيضا” فالأخذ من التراث واستحضاره والذي تجلى مع النص الديني لقصة مريم المجدلية في علاقتها بالسيد المسيح شكل مادة” اساسية اولية في نتاجه هذا ، وهذا أمر لا يكاد يخلو منه نص أدبي حديث.
أحد معالم الحداثة ايضا” هو الوظيفة الاخلاقية لابطال ملحمته كأشخاص مثاليين في المجتمع.
نزعته الصوفية في بعض ثنايا الابيات الشعرية وهي من علامات الفكرة الحداثوية في الشعر.
ويبقى أن انتقال مريم المجدلية من امرأة زانية الى امرأة قديسة هو رمز الخروج من العدم الى الحياة وهو ايضا” بتعبير آخر رمز للانبعاث وتجدد الحياة .
كذلك النزعة الصوفية في بعض ثنايا الابيات الشعرية وهي من علامات الفكرة الحداثوية في الشعر.
ج – حداثة رندلى :
الرومانسية : رندلى ديوان ذو ملامح رومانسية وهذا طبيعي لدى سعيد عقل الذي تأثر بالفرنسيين في هذه المدرسة وهي صفة حداثية وردت عند الكثيرين من شعراء عصره شوقي ابو شقرا، انسي الحاج يوسف الخال وغيرهم من الذين انخرطوا في مشروع مجلة ” شعر ” .
التصوف : لو محونا اسم سعيد عقل عن ديوانه رندلى في جل قصائده لنسبه الناس الى احد المتصوفة . فكما يتماهى الصوفي في حب الاله تماهى عقل في امرأته بعفة وسمو ، فانظر قصيدته : نجوى الليل ” : يقول :
طر بنا يا ليل طر انت الغرام … يا هوى الضمة في وهم النيام ….
مناجاة عقل للّيل يمكن اسقاطها على مناجاة الصوفي في حديثه الالهي ، حديث الروح للروح ، حديث الغرام المتنوع الدلالات فربما هو غرام الحبيب بالحبيبة وربما هو غرام المتصوف بالاله . فما للصوفي ألا يعيش في غابة اللوز مهد الصبا ؟ وما له الا يفرش سريره بالزنبق والياسمين ؟ وما له الا يضاحك حبيبته الرابية ؟! إنه التصوف الجميل الذي شكل صفة حداثية في عبوره المتنوع بين الرسالات السماوية كافةً وتلقفته ملكات المبدعين كشاعرنا اللبناني .
الحرية : فلا يمكن التصديق ان هناك حبا” صحيحا ” كما ورد في رندلى الى درجة التذلل والعبودية للحبيب ما دامت الحرية مفقودة . ومن يصدق ان شاعرا” في الوطن العربي يمكن له ان يبدع الشعرارتقاء” في حب امرأة الى رتبة القداسة وهو مكبّل بالقيود الاجتماعية من حوله ؟ وفي منحى تقابلي آخر لا يمكن الاقتناع أن بمقدور هذا الشاعر نفسه ان يجهر بحبه ساعيا” للارتماء في احضانها هادما” ما بقي من عزته ، سائلا” اياها ان تفر من ثوبها فتعرى ، دون ان ينعم بنعمة الحرية في داخله ومن حوله . انها الحرية كسمة حداثوية .
التضحية والموت والانبعاث : يعلمنا سعيد عقل ان الشاعر مؤقت . فهو الجسد الطارىء في العالم ، وهو الفاني والزائل كغيره ، ولكنه هو الدائم السرمدي كقصيد وشعر . وهي علاقة ملتبسة متداخلة جسدها سعيد عقل في زمانه ، لكنه رفدها بروح الفداء فهو مزج ذاك القصيد بحبيبته التي تبعثه من لحده كلما باحت به . وغير ذلك قوله:
سمراء ظلي لذة بين اللذائذ مستحيلة …الخ… يسبقنا الممات اليه غيلة : انها المتعة كبيرة التي قتلت الموت بظاهره السلبي وأحيت الشاعر وهو في انتظار الغد المنشود بلقاء سمرائه التي يشتاقها. وهي متعة اكدت المؤكد الشهير عن سعيد عقل وهو انه شاعر الحياة والفرح .
الغربة : انا وانت وان نبحرا … انا وانت واليخت ….( القصيدة) الابحار مع الحبيبة في غربة اختيارية تنطلق من رؤية خاصة لمعنى الحب في تفاصيل الوجود والعالم من حولنا . وان كانت رؤية خاصة ذات وجه متألق لا تتفق بالضرورة مع الوجه المقابل لها أي القلق من المجهول كما عند الشعراء الحداثويين . الا انها تبقى غربة .
ولقد تخضرمت التجربة الشعرية عند سعيد عقل عبر زمن طويل من ابداعاته الغزيرة ، بين مواضيع شتى صبغها بصبغة نرجسية في اكثر الاحوال غير أن نرجسيته هذه لم تكن أنانية” او غرورا” .
فليس عجبا” ان ادعي ان ابداع سعيد عقل في رندلى هي النرجسية بحد ذاتها . ولكن كيف ؟ فلنرتقي في شخصيته الشعرية الواضحة قليلا” لنتبين أن نرجسيته على مستويين :
الذات أي شخصه هو . وهو المكمن الاساس في ابراز رغباته الفوقية كشخص فتحت له ابواب الشعر الممجدة فاشتهر وانتشر ، وأعمل فكره فأذهل ، وأجرى يراعه فأبدع ، كل ذلك في ثقة الفرد الواحد المبدع الذي يعلم ما يريد، دون ان يكون أنانيا” او مغرورا” .
المجتمع : أي اختزاله لفرديته المبدعة شعرا” مع الجمهور من حوله ، ليكونا فردا” في قضية . يفرحون لفرحه ويحزنون لحزنه ، والا فكيف تداعوا اليه راغبين بشعره عهدئذ ؟ وكيف له ان يسعى الى لبننة العالم وحيدا” دون جمهوره ؟ ! انها نرجسية مجتمع بأكمله وليس سعيد عقل فردا” .
مجلة إشكاليات فكرية مجلة ثقافية معرفية
				
		