شيخ شعراء فلسطين أبو سلمى الكرمي
2017-02-04
ابحاث ودراسات عليا
537 زيارة
من هو شيخ الشعر الفلسطيني الثائر؟ّّ
إعداد مجلة إشكاليات فكرية
خاطب الشاعر محمود درويش الشاعر «الشيخ» أبا سلمى بالقول: «أنت الجذع الذي نبتت عليه قصائدنا»..
ولم يكن درويش يبالغ أو يمارس واحدة من لياقاته الشعرية الشهيرة وهو يقول ما قال، بل كان يشير إلى ذلك الأثر الكبير الذي تركه شاعر بحجم أبي سلمى في تجارب كل شعراء فلسطين اللاحقين له في زمن القصيدة، خاصة أنه عاش طويلاً، وكان شاهدًا على تحولات القضية الفلسطينية منذ البداية حتى النهاية.. ولا نهاية لها أو له على أي حال.
ولد عبد الكريم سعيد علي منصور الكرمي الملقب بأبي سلمى لأسرة تحتفي بالعلم والتعليم، العام 1909م في طولكرم، ومنها استمد كنيته ودرس فيها مراحل الدراسة الأولى قبل أن ينتقل إلى حيفا التي صارت عنوانه الفلسطيني الأثير، أما عنوانه العربي فهو دمشق التي لجأ إليها بعد نكبة العام 1948م، مع أسرته ليكمل المراحل العليا من الدراسة ويبقى فيها حيًا وميتًا بعد ذلك. وبين عنوانيه الفلسطيني والعربي بقيت القصيدة هي العنوان الأكثر دلالة على مكان الشاعر ومكانته أيضًا.
فبعد أن تلقى الكرمي دراسته الابتدائية في مدارس طولكرم انتقل مع عائلته إلى دمشق حيث أنشأ والده العلامة اللغوي الشهير مجلسًا ثقافيًا سرعان ما احتشد برجالات الثقافة والأدب واللغة المقيمين في دمشق. وقد استفاد الكرمي من حضور ذلك المجلس وما يدور فيه من نقاشات ثقافية ساهمت في تكوينه الفكري مبكرا. وقد استأنف رحلة التكوين لاحقا عندما أكمل دراسته في مدارس دمشق، ما أهله للعمل معلما في مدارس القدس بعد عودته إلى فلسطين حيث انتسب بالإضافة إلى عمله إلى معهد الحقوق في القدس ونال منه شهادة المحاماة.
وكان أبو سلمى قد اشتهر شاعرا من أجل قضية فلسطين، وحين نشرت له مجلة الرسالة القاهرية قصيدة «يا فلسطين» التي هاجم فيها المحتل البريطاني العام 1936 استدعاه مدير التعليم البريطاني في فلسطين، وأبلغه قراره بفصله من العمل. لكن صديقه الشاعر إبراهيم طوقان الذي كان مسرولاً في الإذاعة الفلسطينية آنذاك دعاه للعمل في الإذاعة، حيث استمر يعمل فيها إلى إن استقال وافتتح مكتبًا للمحاماة في مدينة حيفا خصصه للدفاع عن المناضلين المتهمين من قبل قوات الاحتلال بتهم تتعلق بالنضال الوطني. وبقي يزاول عمله في ذلك المكتب حتى العام 1948م، حيث غادر إلى دمشق مضطرًا،وهناك عمل في المحاماة والتدريس، ثم بوزارة الإعلام السورية وأسهم في العديد من المؤتمرات العربية والآسيوية والإفريقية والعالمية.
وعلى الرغم من أن أبا سلمى قد تزوج ورزق ببعض الذرية فإنه لم ينجب سلمى أبدًا، فبقي ذلك الاسم مجرد لقب شعري اتخذه لنفسه وهو على مقاعد الدراسة ورافقه في رحلته الشعرية والوطنية حتى صار اسمه الأشهر.
وزع أبو سلمى مشاعره الوطنية ومواقفه السياسية على تلك القصيدة التي بقيت وفية لقضيتها الأولى، حتى وهي تتوسل رموزًا مختلفة لها. فقد قسم الشاعر ديوانه الضخم إلى قسمين جعل تاريخ النكبة هو الحد الفاصل بينهما تاريخيًا. ولعله يعلم أن ذلك التاريخ هو الحد الفاصل فنيًا أيضًا. فقد تحول ذلك الصخب الهادر في قصائد القسم الأول إلى شجن آسر في قصائد القسم الثاني أي أنه تحول إلى ما يشبه الأسى على ما حل بوطنه ليس على يد العدو الصهيوني وحسب، بل على يد الأنظمة العربية التي رأى أنها قصرت كثيرًا في حماية هذا الوطن المنكوب بشكل مضاعف. وكانت تلك القصيدة شاهدة على التاريخ المتحرك للقضية الثابتة في الوجدان العربي الوطني المعاصر بشكل واضح وضوح الشاعر في شعره.
وجه أبو سلمى خطابه الشعري غالبًا للجماهير العربية العريضة متوسلاً واو الجماعة المغلوبة على أمرها، تحت وطأة تلك القيادات العربية المتآمرة على الشعوب والأوطان في سبيل مصالحها الخاصة، وكراسيها المعلقة برغبة المحتل وحده. ولم يقصر الشاعر الحماسي في تقريع تلك القيادات بشكل أوهن قصيدته وأسلمها للمباشرة والتقليدية.
ولعل قصيدته الشهيرة «لهب القصيد» المكونة من 64 بيتًا من الشعر، والتي انتشرت انتشارًا غير مسبوق في الأوساط الأدبية والنضالية العربية عند نشرها لأول مرة، دلالة على قدرة الشاعر على مخاطبة الجماهير العربية بسلاسة ويسر وعلى التأثير فيها، وإثارة مشاعرها الملتهبة أصلاً.
توفي أبو سلمى في الولايات المتحدة الأمريكية يوم الحادي عشر من أكتوبر العام 1980 بين يدي ابنه سعيد الذي كان يعمل طبيبًا هناك، حيث حاول وقف النزيف الذي أصاب والده إثر عملية جراحية سبق أن أجراها في العاصمة السوفييتية موسكو، لكن دم الشاعر استمر في النزيف إلى أن مات.
ثم نقله سعيد ولده ليدفن في مخيم فلسطيني بالقرب من العاصمة السورية دمشق، بناء على وصيته الأخيرة، حيث شيع على صدى قصائده الهادرة التي رددتها حناجر الجماهير العربية في موكب جنائزي مهيب يليق بالشاعر الذي ترك وراءه عددًا منالمؤلفات الشعرية والمسرحية وغيرها ومنها ؛ «المشرد»، و«أغنيات بلادي»، و«الثورة»،و«أغاني الأطفال»، و«كفاح عرب فلسطين»، «أحمد شاكر الكرمي»، و«في فلسطين ريشتي»، وفي العام 1978 صدرت مجموعته الشعرية الكاملة.
شعره
أبو سلمى.. شاعر وأديب من جيل الشعراء الرّواد الذين سجّلوا بأمانة وصدق أحداث وطنهم وأمتهم، وأسهموا بالكلمة الحرّة الجريئة في قضايا تلك الأحداث.. شعره يتّسم بالوضوح، والمعنى النبيل، والنغمة الأخاذة، واللغة المتينة، ويتوافر فيه الخيال المبتكر.. يحس القارئ لشعره بدفء الكلمة وقوّة التعبير وصدق الانتماء..
نظم شعره في مجالات كثيرة، وجوانب متعدّدة ففيه الشعر الوطني الذي نظمه لفردوسه المفقود بخاصة، ولوطنه العربي بشكل عام. وفيه الشعر الإنساني والاجتماعي، والرّثاء والأناشيد، والحب والغزل، وغير ذلك من فنون الشعر. وقد نظم قصائد رائعة، كل واحدة منها كأنها لوحة رسمتها يد فنّان عبقري. يقول أبو سلمى عن شعره:
شِـعْـريَ جِسْرٌ يلْتقي فوقَه أهـلي بما يَحْلو وما يَشْجُن
يَـعْبَقُ شِعْري بِشَذا موطني لـولاهُ لا يـزكو ولا يَحْسُن
يا وطني !.. لا تَأْسَ إنّا على عَهْدِكَ، مهما طالت الأزْمن
تَـغْـنى الزَّعاماتُ وأشباهها والخالدان : الشّعْبُ والمََوْطِن
لقد أراد أبو سلمى للشعر أن يكون فنّاً جماهيرياً شعبياً يصوّر كل إحساسات الشعب ومعاناته، وما يجري حوله من أحداث.. فشعره يكاد يكون سجلاً للنكبة بكل أبعادها.. وهو يفرّق بين الشعر الملتزم بقضية شعبه والشعر المأجور، ويضع حدّاً فاصلاً بين نوعين من الشعر فيقول : الشّعر كالناس في الكون حرف حرٌّ وحرف ذليل، وإنّ الشعر الحق هو الشعر الملتزم بقضايا الجماهير وآلامها وآمالها..
كيف يمشي القلم المأجور في ساحة تجتاحها النار اجتياحا
في صرير القلم الحُرّ صدى ثورة الشعب هتافاً وصداحا
حاربوا الظلم مدى الدهر إلى أن يرفّ الكون طهراً وصلاحا
وإذا المستعمرون انتشروا يملأون الأرض جوراً واجتراحا
حرّروا الدّنيا من استعمارهم شرف الإنسان أن يقضي كفاحا
ثم يخاطب رواد الشعر في العالم العربي فيدعوهم إلى النهوض بمسؤولية الشعر في الذود عن حقوق الإنسان، وأن يهبطوا من أبراجهم العاجية ويتحملوا مسؤولياتهم بحماية شرف الحرف المضيء وراية الشعر المناضل.