“هل نحن أهلٌ للانتخاب… أم أسرى لصناديقنا الداخلية؟”
بقلم د رلى فرحات
الانتخاب هو أن تُدلي بصوتك لاختيار شخصٍ يُمثلك، أي يُمثل طموحاتك وتطلعاتك، ويملك من النضج والقدرة ما يؤهله لتحقيق احتياجاتك، لا كفرد، بل كبيئة ومجتمع، سواء كنت في قرية صغيرة أو في قلب المدينة، وصولًا إلى مساحة الوطن كله.
الانتخاب ليس فعلًا موسميًا، بل مرآة لوعي الشعوب. عندما يُستدعى المواطن إلى صناديق الاقتراع، فإنما يُستدعى إلى اختبارٍ لمدى نضجه النفسي والفكري، وقدرته على الفصل بين المصلحة العامة والولاءات الضيقة. ولكن، هل ننجح في هذا الاختبار؟ وهل نُدرك أن بناء الوطن يبدأ من بناء الذات؟
والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة:
هل نحن أهلٌ لهذه المسؤولية؟
وهل نتمتع بسواءٍ فكري ونفسي يجعلنا قادرين على تلبية هذا الواجب الوطني؟
هل نختار بوعي وطنيّ صافٍ، أم بدافع عصبية قبلية أو تبعية طائفية؟
ننتظر الحقبات، تمرّ السنين، وتبقى خيباتنا على حالها. نُحلّق كطائر النورس، عالياً في السماء، لكننا نقتات على فتات الفضلات.
أهكذا تُبنى الأوطان؟!!
أنا لا أتكلم هنا من زاويةٍ سياسية، ولست بصدد التحليل السياسي، بل من زاويةٍ نفسية خالصة بقصد التحليل النفسي، إذ طالما نفتقد إلى أبسط مقومات الاتزان النفسي الشخصي، فلن نتمكن من بناء وطنٍ متزن نفسيًا وفكريًا وتربويًا. فالمشكلة، في جوهرها، تتجاوز الأشخاص والبرامج إلى ما هو أعمق: وعي المواطن نفسه.
فما نعيشه من اضطراب في الرؤية، من تشتتٍ في القيم، من خضوعٍ أعمى لأصوات الزعامة والتخويف والتأليه، ما هو إلا انعكاسٌ لخللٍ أعمق داخل النفوس، داخل البيوت، داخل الطفولة المهزوزة التي لم تتذوق يومًا طعم الحرية في التعبير ولا التنشئة على المسؤولية.
كيف نُطالب بحقوقنا ونحن لم نُربّ أنفسنا على أدبيات المسؤولية؟
كيف نصوّت بوعي، ونحن لم نُشفى بعد من إرث طويل من الخوف والقلق المجتمعي والصدمات والعصبيات؟
إن المعضلة الحقيقية ليست فقط في مَنْ ننتخب، بل في مَنْ نحن حين ننتخب.!!!
هل نُحسن النظر إلى الوطن بعين العقل لا الغريزة؟
هل ننتخب من منطلق قناعة وطنية، أم من خلال انتماءاتٍ وراثية تُفرض علينا فرضًا؟
في مجتمعات تعاني من تشظيات نفسية عميقة، يتحول الانتخاب من فعلٍ ديمقراطيّ إلى فعلٍ ارتكاسي، ومن ممارسةٍ للحرية إلى تجديدٍ للقيود. فيتغير الركّاب والقطار واحد؛ ضائع بين محطات التاريخ، يفتقر إلى أعمدة النور المواطنية، وإلى سككٍ من ثوابت تربوية تُعيد توجيهه نحو وجهة وطنية أصيلة.
وهكذا، تتوارث الأجيال القادمة الصدمات كما تتوارث الأسماء.
تتوارث الزعامات كما تتوارث الأثاث العائلي.
تتوارث العصبيات وكأنها إرث مقدس لا يُناقش وممنوع اللمس ولا الهمس. ويستمرّ إنتاج حلقات جديدة في مسلسل شرذمة الوطن الجريح، الوطن المضرج بكل أنواع الاضطرابات النفسية، والهشاشة الفكرية، والأمراض الاجتماعية التي تنخره في عمقه.
وطنٌ لا يحتاج إلى زعيمٍ يُتقن الخطابة، بل إلى معالجين من نوعٍ آخر.
يحتاج إلى من يُرمّم الإنسان قبل أن يُصلح البنيان.
إلى من يُعيد إلى العقل توازنه، وإلى القلب بوصلته، وإلى المواطن إنسانيته قبل أن يُطلب منه الإدلاء بصوته.
فهل آن الأوان لنتوقّف عن التبديل السطحي في وجوه السياسيين، ونبدأ في تفكيك أعطاب النفس المتوارَثة؟
هل نمتلك الشجاعة لننظر في مرآتنا الجماعية ونكفّ عن الهروب؟
هل نستطيع يومًا أن نكسر القيد الذي وضعناه نحنُ، ونصنع قرارنا بأنفسنا، لا من خلال غيرنا؟
الأسئلة كثيرة… والسكوت لم يَعُد خيارًا.
والكلام له (الوطن).
وتبقى تحية إجلال وإكبار للمقاومة في عيدها، والنور نور وإن حاولت أجنحة الظلام تظليله.
د. رُلى فرحات
25-05-2025