الثلاثاء , نوفمبر 4 2025
الرئيسية / تربية وفنون / الذكاء بين ما يرى وما يهمّش!

الذكاء بين ما يرى وما يهمّش!

الذكاء: بين ما يرى وما يهمّش

بقلم الطالبة فاطمة فرّان

«الذكاء هو القدرة على رؤية الإمكانيات حيث يرى الآخرون العقبات.»، وهو القدرة على فهم المعلومات وتحليلها واستخدامها بشكل فعّال لحل المشكلات واتخاذ القرارات والتكيف مع المواقف الجديدة.

فمنذ القدم كان الذكاء معيارا لتحديد قيمة الإنسان في مجتمعه وبيئته، لكنّه اليوم، ومع استبداد التكنولوجيا والعلوم المنطقية، اختزل في نوع واحد وهو الذكاء المنطقي، وبخاصة في المجتمع العربي. فباتت قيمة الفرد تحدد بدرجاته المدرسية في الرياضيات والفيزياء وغيرها من العلوم التطبيقية، فتقلد الأطباء والمهندسون وسام الرفعة و”العبقرية”، وتغافل المجتمع عن باقي مكوناته، من دون مراعاة أنواع الذكاء الأخرى، فما هي هذه الأنواع؟ وما أهمية كل منها؟

تطور مفهوم الذكاء عبر الزمن، فلم يعد يُقاس فقط من خلال اختبارات الذكاء التقليدية (IQ)، بل توسّع ليشمل أشكالًا متعددة من الكفاءات الذهنية والسلوكية. ومن أبرز النماذج الحديثة في علم النفس، نظرية الذكاءات المتعددة التي قدمها هوارد غاردنر والتي قسمت الذكاء إلى عدة أنواع، نذكر منها: الذكاء المنطقي-الرياضي، والذكاء اللغوي، والذكاء الجسدي-الحركي، والذكاء الموسيقي، والذكاء العاطفي، والذكاء الاجتماعي.

نفتتح حديثنا بالنوع السائد حاليا، الذكاء المنطقي-الرياضي، وهذا الذكاء يركز على تحليل المشكلات باستخدام المنطق والتفكير المجرد، مثل حل معادلات رياضية أو مشكلات برمجية أو تحليل البيانات للوصول إلى استنتاجات دقيقة. هذا الذكاء أساسي في مجالات مثل الهندسة، والبرمجة، والعلوم، وربما هذا ما جعله يطغى على سائر الانواع الأخرى كون العالم يترقب كل تطور بسيط في الساحة التكنولوجية والعلمية.

ننتقل إلى الذكاء اللغوي، وهو القدرة على استخدام اللغة بفاعلية، سواء في التحدث أو الكتابة. يتميز أصحاب هذا الذكاء بقدرتهم على صياغة الجمل بدقة، واختيار الكلمات المؤثرة، وفهم الفروق الدقيقة بين المعاني. هذا النوع من الذكاء أساسي في النقاشات والخطب وكذلك في إيصال المشاعر. فما يعطي لمسة للعالم الرقمي الجامد هو الابداع المتحرك المتأصل في اللغة والكتابة والشعر، فالذي يحول الأفكار المجردة إلى نصوص مؤثرة عبقري في حد ذاته لتسخيره كل هذه الجوامد في أسلوب مميز مؤثر وملهم.

من جهته، الذكاء الجسدي-الحركي هو إتقان استخدام الجسد في أداء المهام أو التعبير عن الأفكار فيساعد على فهم العالم من خلال التجربة المباشرة. وأبرز مثال على ذلك الرياضي الذي يتحرك بدقة لتنفيذ حركة معقدة، فكم من إنسان يتجمع لمراقبة فريقين كلٌّ يتألف من أحد عشر لاعبًا يلاحقون طابة لمدة لا تقل عن التسعين دقيقة من دون التفكير في مدى الذكاء والموهبة والقدرة المميزة التي يمتلكها هؤلاء اللاعبون.

أمّا الذكاء الموسيقي الذي يتمحور حول الحساسية للأصوات والإيقاعات. فقد كان يوما رمزا للمواهب الفذة التي تجتمع الطبقة الراقية والارستقراطيون لمشاهدتها، وحتى الآن ما زالت المحافل الموسيقية رمزا للرقي والجمال. لكنّ هذا الذكاء الفذ يخضع لضوابط المجتمع القاتلة التي تدفن موهبة الموسيقي أو المنتج أو الملحن بحجة عدم الحاجة العملية لهم، من دون الالتفات لدورهم المميز في ابعاد الرتابة والروتينية عن الحياة “العملية” المملة.

من ناحية أخرى، فإن الذكاء العاطفي هو فهم المشاعر الذاتية وإدارتها (كالتعامل مع الغضب أو القلق) وقراءة مشاعر الآخرين والتعاطف معهم، أي يركز على داخل الفرد وخارجه من تعامله مع الآخرين. فتبرز أهميته في حالات مثل حل النزاعات، تحفيز النفس، أو بناء الثقة. فحسب دراسة لجامعة هارفارد، 90% من المتفوقين في العمل يمتلكون ذكاءً عاطفيًّا عاليًا وليس ذكاء “منطقي”، فأغلب القادة والاداريين هم ممن امتلكوا هذا النوع من الذكاء، فكم من شخص يكون ذكاؤه المنطقي في القمة لكنه مازال عاملا تحت شخص ذكاؤه المنطقي متوسط..  لكن ذكاؤه العاطفي مرتفع.

وكوجهين العملة واحدة، يركز الذكاء الاجتماعي على الجانب الخارجي الاجتماعي للفرد، فهم التفاعلات الاجتماعية وقواعدها، وبناء علاقات ناجحة، والانسجام مع المحيط الاجتماعي، سواء في العمل أو الحياة اليومية. ويتميز أصحابه بقراءة الوضع العام والمرونة الاجتماعية، فيعرف الفرد ما هو مناسب لكل موقف وكيفية تعديل سلوكه ليناسب محيطه أو الشخص الذي يحادثه. وغالبا ما يكون أصحاب هذا الذكاء من المفاوضين المميزين أو السياسيين الحاذقين.

ختامًا، التكامل بين أنواع الذكاءات المختلفة يُعد مفتاحًا لتحقيق التوازن في الحياة الشخصية والمهنية، فالإنسان الناجح لا يعتمد على ذكاء واحد، بل يدمج بين عدة أنواع لتعزيز نقاط قوته وتعويض نقاط ضعفه. على سبيل المثال، قد يتمتع الطبيب بذكاءٍ منطقي لتشخيص الأمراض، لكنه يحتاج أيضًا إلى ذكاءٍ عاطفي لفهم مخاوف المريض، وذكاءٍ اجتماعي لبناء ثقته. بينما قد يستخدم الموسيقي ذكاءه الفني لتعليم الأطفال عبر الأغاني، ويطور بنفس الوقت ذكاءه الاجتماعي. هذا التفاعل بين الذكاءات يُنتج أداءً استثنائيًا، حيث تُكمّل المهارات العاطفية والاجتماعية المهارات التقنية، ما يخلق شخصية متكاملة قادرة على التعامل مع تعقيدات الحياة. ويبقى للسؤال… كيف يمكن معرفة الذكاء الطاغي؟ وما أهمية معرفة ذلك منذ الطفولة؟

بقلم: فاطمة فرّان