قراءة لنص المتهمون العشرة للمؤلف الأستاذ جمال الدويهي
2021-02-22
ابحاث ودراسات عليا
278 زيارة
قراءة البروفسور رياض عثمان – لبنان لنصّ “المتّهمون العشرة” من كتاب الاستاذ جمال الدويهي

_________
1- النصّ: “المتّهمون العشرة”
جلس الحاكم في صدر المحكمة، وضرب بمطرقته معلناً بدء الجلسة، فطلب من المتّهمين العشرة أن يقولوا ما عندهم، قبل أن ينطق بالحكم. وقد ضُبطوا جميعهم بالجرم المشهود، ولا مفرّ لهم من مواجهة القضاء العادل.
وقف المتّهم الأوّل، بعد أن أقسم اليمين، فقال: كان حادثاً يا جناب الحاكم الموقّر، فقد كنتُ أحاول سرقة منزل الغنيّ ليلاً، فاستيقظ الخادم ورآني، فأطلقت عليه النار وأرديته. كان حادثاً غير مقصود.
وقال المتّهم الثاني: لم أقصد اغتصاب تلك المرأة. كان حادثاً… صدّقني يا حضرة الحاكم الجليل… صدّقوني جميعكم. كنت في الغابة أرعى الأغنام، فرأيت تلك المرأة تستحمّ في النهر، فحدث ما حدث… على غير إرادة منّي. كان قضاء وقدراً… حادثاً وليست لي يد فيه…
واعترف الثالث بأنّه سرق أموال اليتامى، فقال: احتجتُ إلى بعض المال، بعد أن خسرت في القمار، فاستوليت على النقود من صندوق الجمعيّة. لن تصدّقوا كم أنا نادم على ذلك الحادث. فرضتْه الظروف والأحكام… وبدون إرادتي…
واعترف الكاذب، والشاهد بالزور، والمشتهي لامرأة قريبه، وعابد الأصنام، والناطق باسم الله باطلاً، والذي خنق أباه وأمّه، والذي لم يحفظ يوم الربّ… اعترفوا جميعاً بالتُّهم المنسوبة إليهم، ولم ينكروها… لكنّ كلّ واحد منهم زعم أنّ فعلته الشنعاء كانت حادثاً غير مقصود… ولم يكن في اليد حيلة لتجنّب الإثم.
وبعد أن دوّن القاضي بضع كلمات في سجلّ أسود كبير على طاولته، ضرب بالمطرقة مرّة أخرى، وأعلن النطق بالأحكام: السجن مدى الحياة لجميع المتّهمين العشرة.
اعترض أحد المحامين في المحكمة، وقال: عذراً أيّها الحاكم العادل. لقد أكّد لك هؤلاء المساكين أنّ ما ارتكبوه من جرائم لم يكن عمداً، ووردت في كلامهم لفظة “حادث” عدّة مرّات، فأرجو أن ترأف بهؤلاء الرجال، وتخفّف عنهم الأحكام القاسية.
التفت الحاكم إلى المحامي، وقال له: هل سمعتني أحكم على هؤلاء الناس بقصد منّي؟ لقد كان الحُكم المبرَم هو أيضاً حادثاً، وليست لي يدٌ فيه… انتهت الجلسة.
_____
2- مطالعة بروفسور رياض عثمان: تجلّيات المثنّى في بلاد “القصرين”
أنْ تجد أديباً متمسّكاً بلغته الأمّ يعيش في بلادٍ كلّ ما فيها غريب، مبدعاً فيها ناظماً خواطره وشكواه في سبائكَ ورقيّةٍ تارة وتارة أخرى في حرف من نور، يتعمشق سدّة الابداع بغزارة فائقة، ونفحة نظميّة، فإذا ما أضنته الغربة تراه ينزف شعراً ويقطر بوحاً وينوحُ نجوى، إذ جعل جميل الدويهي/ أديب القارّتين لنفسه لغة المثنّى التي لا مثيل لها في لغة أخرى، مثلاً أعلى للتمسك بالماضي على أعتاب الحاضر، ومن الطفولة البريئة إلى طفولة الرجل الخبيئة في قلب شاعرٍ، إذ كبرت معه براءة الشرقيّ الذي يعيش في مجتمعٍ مختلطِ المشاربِ والأهواءِ واللغات بتميّز المثنّى في عروبته، فجميل الدويهي جميلان: واحد شرقي وآخر اغترابيّ، يتبوّأ منزلة بين نجيب محفوظ وجبران خليل جبران.
ولعلّ الغائص في عمقٍ بين القصرين في بلاد جميل الدويهي، يجد ثقافة الرجلين: محفوظ وجبران، ممزوجة بثقافة الجميلين: جميل الدويهي الشرقيّ والآخر الاغترابيّ المحروم والمنعّم، الخائف والمطمئنّ، المشرّد والآوي… ليؤسّس السعة وبُعْد التفاؤل في لفظة “بلاد” بصيغة الجمع، ويمثّل”القصرين”، المثنّاة، قصراً للمادّة وآخر للروح أو العكس لا فرق، بحسب ما تتحكّم فلسفةُ شاعرنِا بظروف نتاجه وقصيدته، وذلك خاضعٌ لفنّيّةِ السرد وشعريّة السياق ولخيارات الإنسان، خياران: خيار الخطأ والصواب. من هنا شكّل المثنى “القصرين” ابتسامةَ الوجهِ المشرقِ لدى شخصيّاتِ معظم القصص القصيرة التي أثبتها في ترتيب كتابه الابداعيّ “بلاد القصرين” في تلك الخاصّيّة الدويهيّة الجميليّة. إنّه الحكيم صاحب الدعوة إلى جوهر الإنسان والسرّ في سحر ابتسامته، الذي يوجّه كلّ الشخصيات المذكورة في كتابه إلى عالمه الابداعيّ، فروعاً وارفةً، وأصولاً تخترق العولمة إلى اصطياد القارئ المعجَب والقارئ الصديق، ولا سيّما العربي.
فبلاد القصرين: قصر للراحة وآخر للمغامرة، قصر لعامّة الناس وآخر لخاصّتهم، وهو يمثّل بنفسه أحد أبرز خاصتّهم، لأنّه مقتنعٌ بما يكتب، مؤمنٌ بما يدعو إليه. فالمثنّى عنده ليس رفيق درب على عادة شعراء الجاهليّة فحسب/قفا نبكِ، يا خليليّ/ إنّما تصويرٌ لواقعٍ معيش يفرض كلَّ عاداته وأهوائه في بلاد الاغتراب، إلى واقعٍ أراد له صديقنا المبدع إشراقةً مزدانةً بألقِ الإنسانيّة وشفافيّة المغفرة. حتّى الثنائيّة الضدّيّة تتّخذ نفحة المثنّى إلى حدّ الترادف الذي لا ينفكّ الواحد منهما عن الآخر، في الحاجة إلى التآخي والتآلف والانسجام… إنّها ثنائيّة إكسير الحياة.
ومن يطالع “بلاد القصرين” ابتداء من النصّ الأوّل: “إذا لم أغيّر” إلى آخر النصّ الذي وسمه بعنوان “المتّهمون العشرة”، يجد أنّ المثنّى خيوطٌ شفّافةٌ تسبك معظم نصوصه، حتّى اكتملت حلقة المثنّى إلى ازدواجيّة اثنين اثنين، حتّى العَشْرة، نحو الكمال الإنسانيّ ونضجِ التجربة الجميليّة متمثّلة بالاعترافات الجوهر، الاعترافات الصادقة التي تنقل صاحبها من القصر الزائف إلى القصر الحقيقيّ الذي يعجّ بالصدق والاستقامة. فكلّ واحد عنده يبحث عن مبرّر فعلته، ليُشَرْعِنُ خطيئته بثنائيّة الخطيئة والمغفرة، الإنسان الضعيف بغرائزة والإنسان القوي بمقاصده.
أمّا المتّهمون العشرة، فهم يمثّلون شرائح البشر بكلّ غرائزهم وأهوائهم، علماً أنّ القاضي الذي يتربّع عل منصّة المحكمة، هو واحد من بني البشر، يعرف ذلك في قرارة نفسه، إلاّ أنّ “المتّهمين العشرة” – ومن معهم من الشهود الذين ينظرون إليه- يظنّون أنّه من خارج طينة بني البشر، قد طرق بمطرقته على طاولة الحُكم، بطرقته التي ميّزته، مطرقته الصمّاء عن أولئك القابعين في عواطفهم وانفعالاتهم / لأنّهم”ضُبطوا بالجرم المشهود”.
وما اعتراف الأشخاص العشرة بما نسب إليهم، وبما أقدموا عليه بكلّ صدق وشفافيّة، مشفوعين بثنائيّة الخطيئة والمغفرة، الذنب والصفح ، جرّاء “الحادث غير المقصود”… إلاّ رضوخ لتلك الثنائيّة. غير أنّ المحامي واحدٌ خرج من صفوف ثنائيّات شخصيّاته؛ لأنّ الذين يتبنّون نصرة المظلومين فرادى: واحد أفلت من عقال دهره، وفلتة عصره فاختار الكاتبُ _ وهو المشرقيّ _ رجلاً لا أنثى تماشياً مع قساوة المشهد وصلابة الموقف، غير أنّ القاضي أَبْرم حُكمه الحادث بأمر ليس يملكه، وما لعناصر السرد وصِحّة القفلة والخاتمة وجماليّتهما إلاّ اللعبة الفنّيّة في بناء القصّة القصيرة، بحذف القيد وترك المقيّد إلى المطلق، بإشارة إلى أنّ القاضي الذي يستمدّ أحكامه من أسياده في القصر الأوّل غير الذي يستمدّه من القصر الآخر في تينك القصرين، لأنّ المشرفين على القصرين متضادّان.
بحقّ إنّ من يتعرّف على قصرٍ واحدٍ من قصريْ جميل الدويهي، لا بدّ من أن يدفعه فضولٌ إلى أنْ يتعرّف على القصر الآخر، غير أنّه يضعُك أيّها القارئ في حيرتين: أنّ قلمه سمح له بحرّيّة التعبير عن عوالمه التي حُرم منها في بلده المنشأ لبنان، وأخرى أنّه أطلق بَوْحَه من هناك من بلاد الاغتراب /أستراليا، وتوجّه به إلى مَشْرقه القابع في داخله الغارقِ في ثنائيّة الكبْت والسرّ، ومن تلك وتلك يتلاقح المثنّى في ثقافتين وتجلّياتٍ واحدة.
_______