المجادلة في النصوص والكتابة!
2019-05-01
ابحاث ودراسات عليا
431 زيارة
إعداد الباحثة ريتا بولس شهوان
المجادلة
1- تعريف وتحديد
1-1 ما المجادلة؟
يدور خطاب المجادلة حول موضوع يدعم أطروحة (وجهة نظر، رأي)، تكون إجابة عن إشكالية محددة. والهدف من المجادلة هو دفع المتلقّي (الخصم، المواجِه، المحاور، القارئ، المشاهد، المستمع، الجمهور…) إلى تبديل رأيه، أو إلى اتخاذ موقف معيّن، أو إلى القيام التصرّف حيال أمر ما.
ويكون الموضوع عادةً محددًا، مروحته متسعة، مثل موضوع استعمالات التبغ، أو مضارّ التدخين الصحيّة، أو مضارّه الاجتماعية، أو السلوك الاجتماعي المتعلق بالتدخين. إلخ.
أما الإشكالية، فتكون مصوغة على شكل سؤال: التدخين، هل هو مسيء إلى صورة الفرد في مجتمعه؟
في حين تكون الأطروحة بمنزلة إجابة عن الإشكالية، أو هي موقف محدد منها: التدخين يؤدّي، في بعض الحالات، إلى عزل الفرد اجتماعيًا.
وبذلك، تكون المجادلة هي الاستراتيجية الأمثل، والأكثر فعّالية، من أجل:
تعريف المتلقّي بموقف المرسل، بأطروحته.
دفع المتلقي إلى تبنّي هذه الأطروحة.
خلخلة ثبات المتلقي (في حال كان خصمًا، ذا رأي مخالف)، ودفعه إلى الشكّ في مسلَّماته، أو صحّة آرائه…
معارضة الأطروحة المعاكسة، وانتقادها…
شرح الأطروحة بدقّة، وتنظيم، وبالتدرّج.
جذب الانتباه، تسليط الضوء على الذات، احتلال موقع مميز.
الدفاع عن قضية، أو حزب، أو عقيدة…
ترك أثر في نفوس الآخرين، عن طريق المنطق، والعرض السليم، وتبيان وجهة النظر أو الموقف، عبر العمليات الخطابية.إلخ.
وتؤدي هذه الأهداف أو الأغراض، منفردة أو مجتمعة، إلى مجموعة متنوّعة من الأشكال والأنغام، التي تجعل كل محاولة للمجادلة أمرًا مميَّزًا، بل ربّما أمرًا يصعب تبيّن خصائصه.
هكذا، يمكن أن تكون عملية المجادلة:
فضفاضة متّسع المروح، أو ضيّقة دقيقة.
موجزة أو مطوّلة.
رسمية أو غير رسمية.
ثقيلة الوطأة، أو رشيقة منسابة.
منجَزة بالحد الأدنى من الهجومية، أو قائمة على المواجهة المباشرة.
بعيدة الأمد، أو قائمة على استراتيجية الضربة الخاطفة.
كلاسيكية أو مبتكَرة.
بسيطة أو قائمة على الاستعراض.
ذات طابع جدّيّ وواضح، أو هازئة متهكّمة.
مباشرة أو غير مباشرة.
1-2 مقاربة ثلاثية للمجادلة: الإقناع عن طريق العقل، أو/والعاطفة، أو/والمداولة وفحص الآراء
تهدف المجادلة إلى الإقناع عن طريق العقل (Convaincre)، أو/وعن طريق العاطفة (Persuader)، أو/وعن طريق المداولة وفحص الآراء (Delibérer)؛ ما سيساعدنا على إنجاز مقاربة ثلاثية لها في السطور القليلة التالية. ففي حين تهدف المجادلة إلى دعم رأي معيّن أو دحضه، إلا أنها تسعى أيضًا إلى إحداث تأثير ما في المتلقّي، أكان عبر إقناعه عن طريق العقل، أم عن طريق العاطفة.
المجادلة هي إذن تسويغ رأي ما، يسعى المرسل إلى جعل المتلقي يتبناه، إما بكامله، أو بأجزاء منه؛ وفي سبيل هذا الهدف، يتمّ استخدام العقل أو/العاطفة.
كما إن المجادلة تقوم في جزء هام منها، على التعرف إلى رأي الآخر، الذي سيتم الدخول في نقاش معه، وأخذ هذا الرأي في الاعتبار، أو في المداولة أو فحص للآراء.
1-2-1 الإقناع عن طريق العقل (Convaincre)
يخاطب المرسِل، في هذه الحالة، عقل المتلقّي، كما يخاطب الروح التحليلية لديه، وروحه النقدية، للحصول على تأييده، بعد أن يدخل المتلقّي في عملية من التأمّل الناضج.
هنا، يحدد المُرسِل أطروحته، ويتسلّح ببراهين عقلية، تساعده على تأييد هذه الأطروحة ودعمها، أو على دحضها.
ويتمّ تجسيد هذه البراهين عبر عدّة وسائل: عبر تجارب شخصية، أو قراءات، وعبر مجالات معرفية مختلفة (العلوم، التاريخ، الفلسفة… إلخ)، أو عبر مراجع لباحثين آخرين (استشهادات)، أو عبر بعض النوادر المضحكة أو اللاذعة (الطرائف والنكات)، أو عبر الاستشهاد بالحكم الشعبية (الأمثال)، أو عبر بعض القيم الرمزية أو الثقافية المشتركة (الميثولوجيا).
وتتواجد البراهين هذه بطريقة منظمة في منطق المرسل (الاستقراء، الاستنباط، النقد، الجدل، القياس، برهان الخلف…)، على شكلِ مخطَّطٍ (من الأقل أهمية إلى الأكثر أهمية)، تتصل أجزاؤه: عبر روابط منطقية تؤدي دور المعلُمات (Les Points de repère). أهم الروابط، هي تلك التي تضع التوكيد على النقاط السببية (التي تشير إلى العلاقة بين العلّة والمعلول: السببية) ، تليها في الأهمية تلك التي تساعد في تنظيم عرض الأفكار. ننصح عادة بالإكثار من استخدام هذه الأدوات، من أجل لفت انتباه المتلقّي، أو على الأقل من أجل جعل الأمور واضحة أمامه، بحيث لا يضيع في بحر البراهين. إلى هذا، يمكن أن نضع في إطار استراتيجية المجادلة، أمورًا مثل توسيع الأطروحة أو تطويرها أو دحضها، والتنازل عن نقطة ما، والمساومة… إلخ. كما إن المسار البرهاني أو الجدلي يمكن أن يتنوّع: قد يختار المرسِل أن يدافع عن أطروحته، مع التزام الصمت حيال الأطروحة المعاكسة، في ما يكمن أن نسمّيه “اللامبالاة الساطعة” (Splendide indifference)، كما يمكنه أن يبدأ بدحض أطروحة الخصم، أو على العكس، يمكنه أن يظهر بمظهر “المنفتح”، أو “المسالم”، عبر قبوله ببعض التفاصيل غير ذات الأهمية في أطروحة خصمه، هادفًا إلى جعل الخصم أكثر تقبُّلاً لأطروحة المرسِل.
1-2-2 المداولة وفحص الآراء (Délibérer)
تقوم المداولة على فحص السؤال من مختلف جوانبه، التناقش، والتأمل فيها، بغية اتخاذ قرار، والوصول إلى حلٍّ ما. المداولة إذن هو التعاطي مع اعتراضاتنا، ومع اعتراضات الآخر، قبل أن نبني آراءنا الخاصة. وتسمح هذه الخطوة الضرورية من التأمل الشخصي، بأخذ آراء الآخر في الاعتبار، وفحص مدى صحة المواقف (ومدى ملاءمتها للواقع وهذا ما يعرف بالبراغماتية)، قبل اتخاذ الموقف الشخصي.
والمداولة أمر ضروري وأساسي في النقاشات العامة داخل الديمقراطيات. في المحاكم، وقبل إصدار الأحكام، يقوم القضاة دائمًا بالمداولة.
1-2-3 الإقناع عن طريق العاطفة (Persuader)
يعتمد المرسِل، عندما يتوجّه عبر خطاب المجادلة إلى العاطفة، على بعض القيم والسمات الثقافية المشتركة. تشتمل عملية المجادلة، بشكل واضح أو ضمني، على نظام تفكير. فإذا أراد المرسِل أن يؤثر في المتلقي، عليه أن يفهم نظام القيم لمن يتمّ التوجّه إليهم.
هكذا، فإن الدفاع عن أطروحة ما، يجب أن يستند إلى مبادئ عامة، أو على الأقل إلى مبادئ تؤمن بها الغالبية: الحقيقة، الحقّ في السعادة، العدالة، الصدق… إلخ. أو يجب أن يتمّ الاستناد إلى قيم تعتمدها جماعة اجتماعية (Groupe social) محددة: الشرف، الشجاعة، الوطنية… إلخ.
كما يجب أن يستند الدفاع عن الأطروحة، إلى مرجعيات ثقافية مشتركة، تؤدي إلى خلق نوع من التواطؤ، أو التفاهم على نقاط مشتركة، تساعد في دفع المتلقّي إلى تبنّي أطروحة المرسِل: اللعب على الكلام، إطلاق الطرائف، المفاهيم، التلميحات…
ويقدم الخطاب نفسه باعتباره تعبيريًا، وانطباعيًا، يسعى إلى التعبير عن الانفعالات الحادّة، وإلى التأثير في المتلقي. على المرسِل أن “يوقع المتلقّي في الشرك”، أن يعطيه انطباعًا بأن أطروحته (المرسِل)، هي نفسه أطروحة المتلقّي، ذي الهموم والاهتمامات والتحديات المشتركة. ويصل المرسِل إلى حدّ استخدام ضميري المخاطب والمتكلِّم، بهدف خلق نوع من وحدة الحال، أو الحميمية، بينه وبين المتلقّي. يصل المرسِل إلى حدّ جعل المتلقّي في موقع الشاهد، أو المؤكّد لأطروحاته، عبر طرح الأسئلة، من دون انتظار أجوبة عنها، فتكون بمثابة الموافقة على ما يطرحه المرسِل… أسئلة تسعى إلى خلق نوع من الحياة في الخطاب، وبعض التنوّع في الطريقة التي يمتثل بها المتلقّي ويؤكد أطروحات المرسِل.
2- بعض أنماط البرهان
– برهان السلطة: يتمّ عبر الاستعانة، في الخطاب، بمرجعية سياسية، أو أخلاقية، أو علمية، تكون معروفة، أو خبيرة. مثلاً: عندما سئل ألبر أينشتاين عن سبب رسوبه، أجاب بأنه لم يكُن يجيد التحضير للامتحان.
– برهان التماثل (أو برهان الشبه): يقوم على المقارنة بين أمرين أو حقيقتين، لاستخراج قيمة تفسيرية. مثلاً: إن التدخين هو تمامًا مثل تعاطي الكحول أو المخدّرات، يؤدي إلى إدمان جسديّ ونفسي يصعب التخلّص منه.
– ربط السبب بالنتيجة: يؤدي هذا الأمر إلى أمر آخر، بحسب المسلّمات الحتمية. مثلاً: إن رائحة فمك المزعجة هي بسبب التدخين، فهو يحدث اضطرابات هضمية، ويتسبب بمشاكل في الأسنان.
– المحاسن والمضارّ: أي إظهار النتيجة في مختلف الأحوال. مثلاً: التوقف عن التدخين يحسّن صحّتك، والعكس قد يسبب لك الموت المبكر.
– استخدام معطيات علمية وتاريخية ورقمية دقيقة: وهذه المعطيات لا يمكن دحضها. مثلاً: أثبتت الإحصاءات أن التدخين هو المسبب الأول لسرطان الحنجرة والرئة.
– التحليل واستبعاد الحلول الأخرى: تصلح هذه الطريقة في المجادلات الطويلة، أو في دحض الاعتراضات المسبقة. مثلاً: تدخين سجائر خالية من النيكوتين، لا يقضي على خطر مادّة القطران، ولا الموادّ الناتجة من عملية الاحتراق.
– التعميم: حيث يتمّ استخدام مثل أو اثنين للتعميم. مثلاً: برامج الحماية التي اعتُمدت في الدنمارك والسويد، أدّت إلى نتائج جيّدة. علينا الاستعانة بها.
– الهزء والتهكّم: وهي نوع من برهان الخلف، تسعى إلى استثارة إعجاب المتلقّي، عبر مخاطبة ذكائه. وعلى المتلقّي هنا أن يعرف أن عليه عدم أخذ كلام المرسِل على محمل الجدّ، بل أن يقلب تقريبًا كلا ما يقدّمه هذا المرسِل على أنّه حقائق. إنه أسلوب ممتع وشيّق ومؤثر، ولكن خطورته تكمن في أن بعض المتلقّين قد يأخذون كلام المرسِل على حَرفيّته، فيكون المردود معاكسًا. تُسهم هذه الطريقة في تقريب الرسالة من ذهن المتلقّي، فيُجبَر دون أن يدري، على قطع منتصف الطريق نحو تبنّي أطروحة المرسِل.
3- بعض الأساليب التي تستعين بالبرهان
3-2 البرهان المباشر
3-2-1 المقالة (Essai)
هو مؤلَّف يضمّ تأمُّلات مختلفة، أو يعالج موضوعًا يتسم ببعض السهول؛ وهو نوع أدبي ملائم لمختلف التقنيات. هو نوع من المؤلَّفات التي تقترح تأملاً ما، أو تتطرّق إلى آراء، خصوصًا لكونها تطرح وجهات نظر شخصية، حول مواضيع معيّنة، في مختلف المجالات.
يكون هذا النوع من المؤلَّفات، في العادة، تعليميًا توجيهيًا، حيث يقترح بشكل أساسي، التشارك في معارف معيّنة، حول مجالات مختلفة. وقد كانت بدايات هذا النوع في المواضيع الفلسفية، قبل أن يتطوّر لينحوَ نحو بعض الأفكار الشخصية والحرّة.
وتكون المقالة في العادة، نوعًا من النقاش مع أصحاب أفكار أخرى، غير حاضرين، والتي يتم استحضارها عبر بعض الاستشهادات والتعليقات. وتعتمد المقالات في العادة على أسلوب المداولات الذي تحدثنا عنه أعلاه.
أما في الشكل، فهذا النوع من المؤلَّفات يكون حرًّا، من هنا كثرة استخدامه بين الصحافيين والسياسيين الذين يعرضون تجاربهم وآراءهم.
3-1-2 حوار الأفكار
يمكن للمجادلة أن تأخذ شكل حوار بين شخصين أو أكثر، فالحوار وسيلة أساسية لمقاربة الأفكار. نأخذ في هذا الإطار حوار الثقافات، أو حوار الدول، أو الشعوب، أو الأيديولوجيات، هذه الحوارات التي تجنب حالات الاصطدام العنيف والمدمّر.
ولا يكون الحوار بين شخصين (أو أكثر) فقط، بل بين قيم مختلفة: أخلاقية، جمالية، فكرية، عملية…
ويتم اعتماد أسلوب الحوار في عدد من الأنواع الأدبية:
يشكل الحوار العمود الفقري للمسرح، حتى من خلال استخدام المونولوغ (Monologue)، الذي يعرض بعض المداولات. والحوار هو الذي يؤمّن التطوّر الدرامي في العمل المسرحي.
أما في الرواية، تشكل حوارات الأفكار نوعًا مما يسمّى “الوقفة” في تقنيات السرد، كما نرى في الرواية حوارات مباشرة وغير مباشرة وحرة وسردية، حيث إن الراوي قد يتدخل في حوارات شخصياته.
ويساعد الحوار في الرواية، كما في المسرح، على تقديم الأفكار من وجهات نظر مختلفة، وعلى الإسهام في الحوارات الأيديولوجية التي تكون محتدمة في حقبة معينة.
كما يمكن أن نجد الحوار في المقالات المطوّلة (Essai)، وفي الأمثال الخرافية، والقصص الفلسفي، والحوارات الفلسفية، وفي أنواع أدبية أخرى.
3-1-3 الترسّل
تمتاز الرسالة بأنها، في الوقت ذاته، صلبة وليّنة، وهي تستخدم البرهان في كثير من تطبيقاتها. وتُعدُّ الرسالة نوعًا من الحوار، الذي يستعيض عن المطارحات الشفهية والبصرية، بالتواصل الكتابي، بحيث يكتسب المرسل/المتلقي المزيد من الوقت، فتكون ردوده أكثر نضجًا، نتيجة خضوعها لوقت أطول من التأمّل.
3-3 البرهان غير المباشر
3-3-1 المثل الخرافي
وهو قصة قصيرة بسيطة رمزية غالباً، لها مغزى أخلاقي، وقد تكون على ألسنة الحيوانات، كقصص كليلة ودمنة التي نقلها إلى العربية ابن المقفع، ومثل قصة الأرنب والضب، وكقصص الشاعر الفرنسي لافونتين (La Fontaine).
وتدل الأمثال على عقلية الشعب الذي تصدر عنه، وتُصوِّر حياته الاجتماعية، وهي خير دليل على أخلاقه وطبيعة ثقافته، ومشاغله، وهمومه، وراصد لأحوال بيئته وموجوداتها، وترجمان لمستوى لغته ونهج تربيته، وفيها تسجيل دقيق لجانب من تاريخه العام، ذلك أن بعض الأمثال تكون وليدة الأسطورة في إطار التاريخ المحلّي، أو وليدة حادثة تُروى على أنها حدث تاريخي كبير.
3-3-2 الحكاية
الحكاية هي القصة المروية التي قد تستند إلى المخيلة بصورة أساسية وإلى بعض الحقائق في بعض جوانبها وإلى البطولات الجبارة والقدرات الخارقة والموت والحياة والفقر والغنى والخير والشر. ومن أشهر الحكايات في التراث العربي، حكايات ألف ليلة وليلة، وسيرة عنترة.
في البداية، كانت الحكايات تتوجه إلى البالغين، إلى أن بدأ الأمر يتبدل في القرن الثامن عشر، تدريجيًا، وباتت الحكايات موجّهة إلى الأطفال.
وثمة دراسات موسّعة حول ما يُسمّى بالفرنسية حكايات الساحرات (Les contes des fees)، أبرزها كتاب برونو بتلهايم (Bruno Bettelheim)، التحليل النفسي لحكايات الساحرات La Psychanalyse des contes des fées، وهو اليوم معتمد في كليات التربية في أكثر من جامعة عربية، من بينها الجامعة اللبناني.
3-3-3 القصص الفلسفي
اشتُهر مع الأديب الفرنسي فولتير (Voltaire). ولا تختلف القصة الفلسفية، في الشكل، عن القصة الشعبية؛ بطل، وتحدٍّ، وصعوبات، وخوارق… وتركز القصص الفلسفية على الأسلوب المنطقي، وتظهر فيها شخصيه المؤلف ظهورًا مباشرًا بكل جوانبه المعرفية.
أما الهدف من كتابة هذا النوع، فهو شرح بعض المسائل الفلسفية في أسلوب قصصي، كالكلام في نظرية المعرفة والفلسفة والطبيعيات وغير ذلك من المسائل الفلسفية.
أما أبرز القصص الفلسفية العربية، فهي قصة حي بن يقظان لابن طفيل، التي كتبها لأسباب فلسفية تعليمية دينية.
دراسة مقال
ثلاث طبقات لمنع التغيير
خالد صاغية قليلة هي الفرص التي تُتاح أمام اللبنانيّين لإجراء تغيير على السياسات التي تدير شؤونهم المعيشية. فغالباً ما تعيش البلاد فترات تراخٍ واستسلام يصبح الهمّ الأساسي فيها عدم استئناف الطوائف حروبها الصغيرة. ومقابل الأمن، لا بأس بقبول الظلم وانعدام العدالة في توزيع الثروات وارتفاع معدّلات الاستغلال. وكرمى لعيون رؤوس الطوائف، إن قبلوا التعايش السلمي، تستمرّ طوابير الشباب على أبواب السفارات. لكن، حين تتاح فرص نادرة للتغيير، لا يقف في وجهها حيتان المال مباشرةً. غالباً ما يبقى هؤلاء في الظلّ. وإن تولّوا مناصب سياسيّة، تراهم يغلّفون صفقاتهم بشعارات وطنيّة. هكذا تصبح «سوليدير» مثلاً مرادفاً لكرامة بيروت، أو يصبح إضراب طيّاري «الميدل إيست» طعنة في ظهر أجنحة الأرز، أو النهب المصرفيّ المنظّم أسطورة مؤسِّسة للكيان اللبناني. خلف أولئك الحيتان، تقف طبقة أخرى تعمل في الكواليس. إنّهم «الخبراء» أو «المحاسبجيّة». هؤلاء مستفيدون حتماً من بقاء الأمور على ما هي عليه، لكنّهم مستفيدون بالواسطة، لا مباشرة. وظيفتهم إطلاق تعابير علميّة لطيفة على عمليّات النهب. وهم يردّدون ببغائياً ما كانت تتباهى به الألسنة المحيطة بأوغستو بينوشيه ومارغريت تاتشر ورونالد ريغان. ويتسلّحون بنماذج اقتصادية بالية رُوّج لها في غرف أبحاث سوداء أنشئت ومُوِّلت من أجل أن تلقى بلدان العالم الثالث كلّها مصيراً مشابهاً لتشيلي إبّان القبضة العسكرية. ولعلّ الضجّة التي أثيرت بشأن استقالة رئيس الهيئة المنظّمة للاتصالات، تحمل أكثر من دلالة رمزية على الحيّز الذي يحتلّه «الخبير» في نظام النهب عندنا. لكنّ المثال الأبرز يبقى فؤاد السنيورة الذي تمكّن من «الترقّي الطبقي»، والانتقال إلى صفوف الفريق الأوّل، تاركاً وراءه في مجلس الوزراء حفنة من «الخبراء» أو «المثقّفين» التابعين الذين يسيرون على خطاه، لعلّ وعسى. أمّا الواجهة، فتحتلّها طبقة ثالثة. طبقة «المُعَربِشين» الذين نقلهم أسيادهم إلى حداثة النعمة. أولئك الذين تحوّلت ذكرياتهم عن الفقر حقداً على الفقراء. أولئك الذين «فعلوها» وباتوا من حاشية البلاط، فأحسّوا بأنّهم أصبحوا «فوق»، ويعملون جاهدين كي يبقى الآخرون «تحت». أولئك الذين يبيحون لأنفسهم إطلاق الشتيمة في مواجهة السعي النبيل لتوفير سبل العيش الكريم لعامّة المواطنين. أولئك الذين يحسبون أنّهم يطلقون النار على خصومهم، فلا يصيبون إلا ذواتهم. ذواتهم التي أضاعوها منذ زمن.
الدراسة
الموضوع والمناسبة، العنوان وعلاقته بالموضوع
هذا المقال للكاتب خالد الصاغية، ورد في جريدة “الاخبار” في عدد الاثنين 7 حزيران 2010، تحت خانة “رأي”. غير انه وان صح التعبير، اتى ردة فعل على خبر كان قد ورد في صفحة السياسة وهو موضوع “الموازنة” وخبر مفاده ان وزيرة المال، ريا الحسن، اقرت بتلاعب في الارقام، اما اصرار وزير الاتصالات شربل نحاس، والذي هو في الاساس خبير اقتصادي، عين كوزير شبه حيادي “بيضرب عصفورين بحجر واحد في الحكومة” لجهة توليه مهمة صَعبة على جبران باسيل، الذي كان وزير اتصالات سابق، والمامه الدقيق في امور الاقتصاد، فالتصدي لسياسة الحريري الليبرالي، والتدقيق بها:
الخبر مقتطع من المقال
تتجدّد الحملة على وزير الاتصالات شربل نحّاس. التهمة الجديدة هي أنّه يودع فائض إيرادات وزارته لدى المصارف الخاصّة، ما يضطرّ وزارة المال إلى مزيد من الاقتراض… حملة تتناسى أنّ أموال وزارة الاتصالات تودَع مباشرة في حساب لدى مصرف لبنان، وأنّ وزارة المال تقترض أصلاً ما يفوق حاجات الدولة بهدف امتصاص السيولة الفائضة لدى المصارف التجارية. وما دام الأمر كذلك، فما سرّ الحملة المتجدّدة على نحاس؟
ولأن سياق مقالة الراي، ياتي على ضوء ذلك الخبر، يمكن القول ان الكاتب، اراد وبطريقة غير مباشرة، من خلال دس بعض الافكار “الايديولوجية” (سنمر عليها في وقت لاحق)، استخلاص العبر، او عرض العبر، على القارئ فيلاحظ الاخير خطورة ما يجري داخل الحكومة، وعلى موضوع الموازنة وتاثيره على حياة الشعب وقدرتهم في اتخاذ القرارات.
اذا الموضوع الاساس: الموازنة. والذي عّبر عنه الكاتب باسلوب مبطن على انها فرصة من ” الفرص التي تُتاح أمام اللبنانيّين لإجراء تغيير على السياسات التي تدير شؤونهم المعيشية”، بدل تحديده “موازنة”، فلا يربط القارئ وبشكل مباشر، بين الخبر اعلاه ولفظة “الموازنة”، مما يساعد القارئ الدخول في اعماق النص، محاولا الاجابة عن سؤال ” ما هي تلك الفرصة المتاحة امام اللبنانية” وما علاقتها بالعنوان ” ثلاث طبقات لمنع التغيير” بين “الموازنة” و”فرصة لاجراء التغيير على السياسات العامة” والعنوان “ثلاث طبقات لمنع التغير”، علاقة عضوية معنوية. فان اعتبرنا بان الموازنة تعادل تلك الفرصة، يجوز القول ان هناك ثلاث طبقات، بغض النظر عن التضمين الذي تحمله لفظة طبقات، لمنع التغيير في الموازنة وتحسين حياة المواطن.
النوع الادبي وتقسيم النص
هذا المقال، المؤلف من اشكالية، عرض للموضوع، وبراهين تتراوح بين العقلية المنطقية حتى اثارة العواطف، ليس الا ردة فعل “عقلانية” مشبّعة بايدولوجيا ، على خبر سبق واشرنا اليه. الاشكالية : من الذين يمنعون على المواطن تغير سياسته الاقتصادية؟ عرض للموضوع: عرض الكاتب الموضوع من باب المواطن، الذي يريد ان يستتب الامن في داره، دون ان يتناحر اهله، ويريد ان يثبت اقتصاده دون ان يضطر الشاب على الهجرة. والاثتان معلقان بالقرار السياسي. مما شكل طبقات تمنع ذاك التغير
الموضوع : البرهان : حيتان المال مباشرةً. غالباً ما يبقى هؤلاء في الظلّ. البرهان : . إنّهم «الخبراء» أو «المحاسبجيّة». البرهان : طبقة «المُعَربِشين» الذين نقلهم أسيادهم إلى حداثة النعمة. الخلاصة : ان من اصبح في الحكم ( اكان من حيتان المال، الخبراء، المعربشين، او ضخص واحد يمثل عنصرين ك ريا الحسن) هو من يعرقل فرص التغيير على المواطن.
اتّبع الصاغية، في مقال الراي هذا اسلوب جدلي للأفكار، اذ انه وضع نفسه في موقف المواطن اللبناني، الذي يمثل كل اللبنانيين وكأنه يبطّن الضمير “نحن”، وهذا امر مبرر لاعتبار بانه صحافي، فهو اذا المرسِل. اما المرسل اليه فهي الطبقة السياسية او الحاكمة كلها. اذ انه اشار الى تلك بالضمير الغائب “هم” . في كل برهان، استخدم تقنية مختلفة.
في البرهان الاول : قليلة هي الفرص التي تُتاح أمام اللبنانيّين لإجراء تغيير على السياسات التي تدير شؤونهم المعيشية. فغالباً ما تعيش البلاد فترات تراخٍ واستسلام يصبح الهمّ الأساسي فيها عدم استئناف الطوائف حروبها الصغيرة. ومقابل الأمن، لا بأس بقبول الظلم وانعدام العدالة في توزيع الثروات وارتفاع معدّلات الاستغلال. وكرمى لعيون رؤوس الطوائف، إن قبلوا التعايش السلمي، تستمرّ طوابير الشباب على أبواب السفارات.
وبمنطق تعاقبي، وتسلسلي، ولدته الجمل الفعلية المقرونة بالروابط المنطقية “غالبا، مقابل، وكرمى، ان” استطاع الكاتب ان يحرك عنصر العاطفة في قلب القارئ. فباثارة محاور : تغير السياسات( الضغط)، الطائفية السياسية، العدالة الاجتماعية، الشباب، محرك الوطن. مرجح القارئ بين منطقين : سبب ونتيجة. السبب1 : هم المواطن ان تحافظ الطوائف على الامن النتيجة 1: تعيش البلد فترات تراخ لان المواطن همه( اعلاه) السبب 2: توزيع الثروات وارتفاع معدلات الاستغلال النتيجة 2: يقبل المواطن ، حفاظا على الامن السبب 3: مقابل الامن بين الطوائف النتيجة 3: يهاجر الشباب
هكذا يحاول الصاغية ان يلعب على العواطف، من خلال اللعب على المنطق، وكأنه يقول : حفاظا على الامن : الطوائف تسيطر عليكم، تجوعون، يهاجر اولادكم. فكيف لا تثورون؟
يستلحق الموضوع ب”لكن”:
اي انه وبالرغم من جبن هذا الشعب، هناك “فرص نادرة للتغير”. وتلك يقف في وجهها : “رؤساء المال” الذين يتبوؤن مناصب عليا، او مساعديهم الذين يتبوؤون نفس المناصب، او الوصولي الذي تبوء المنصب.
وبينهما يخرق الهرمية للمقالة بامثلة من الواقع : “فؤاد السنيورة” – “سوليدار” الخ … مما اضفى واقعية على النص وربطه بالواقع وجعل من نظام قائم على ايديولوجيا يسارية تقضي بان يطالب الشعب بحقه من السلطة دون خوف او وجل، فما هم الامن اذا كانت حريته مهددة؟