مشروع مخطط لرسالة اعدته الطالبة زينب سعيدي في الجامعة اللبنانية، بإشراف الدكتور أنور الموسى
التّعريف بالموضوع:
تعالج هذه الدراسة موضوع “السادية وصراع الشخصيات بين الرضوخ المازوشي والتمرد” في رواية يا دمشق وداعاً للكاتبة السورية غادة السمان”.
والسّادية “هي اضطراب مؤقت في الشخصية، ويتمثل في التلذذ أو الرغبة في إيلام الآخر، سواء كان في الجانب اللفظي من فحش في الكلام (سادية لفظية)، أو في سلوكات عدوانية كاستعمال القوة والعنف (سادية سلوكية)، وقد يبرز في شكل إيلام الآخر نفسياً والتحرش به أو السيطرة عليه (سادية نفسية)، وأخيراً قد تظهر في أثناء القيام بالفعل الجنسي ولا يحصل على الإشباع الجنسي إلا بها وهنا تسمى (السادية الجنسية).
من هنا تظهر النّتيجة أن مفهوم السّادية لا ينحصر في العلاقة الجنسيّة السّريريّة كما كان يُشاع من آراء، بل إنّه يتّسع ليشمل أيَّ عمل عدواني عميق تجاه الآخر، وبالمقابل ذاك الأخير المعنف يستقبل عدوانية السادي بإحدى الطريقتين، فإما أن يكبت مشاعره الأليمة ويخضع وقد يكون هذا الخضوع عن قناعة من دون الشعور بالعدوانية تجاه الشخص السّادي، وهذا ما سمّاه علماء النفس بالمازوشية، وإمّا أن يتمرّد ويرفض ذاك العنف أيّاً كان نوعه، فيتحدّى السّلوك السّادي ويعلن ثورته.
وفي هذه الدّراسة، يسعى الباحث إلى إظهار المجتمع السوري الدّمشقي الذي صوّرته الكاتبة غادة السّمّان، في ستّينات القرن الماضي؛ ذاك المجتمع الذي اتّصف بأعلى مراتب القمع والسّادية، وتميّز أفراده بالسلوك المازوشي.
وبما أن السّادية لا تأتي من فراغ، لا بد أن تتعدّد البواعث التي تغرس في نفوس أفراد المجتمع هذه العقد والأمراض، قد تكون المسبّبات اجتماعيّة؛ كأن يتربى الطفل على عادات وتقاليد قامعة، ما يدفعه إلى أن يمارس ما تعلمه ورآه في مراحل عمره الأولى.
وقد تكون السّادية نتيجة التّعنيف المستمرّ له (سلطة أبوية) ما يعكس ردّة فعل سلبيّة على تصرّفاته مع الآخرين، أو أن يسود الجهل والفقر في مجتمع ما، فتأتي السلطة كي تستغل تلك الأوضاع، “فلا يجد الإنسان المقهور عندها من مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الرضوخ والتبعية، والوقوع في الدونية كقدر مفروض، ومن هنا شيوع تصرفات التزلف والإستسلام والمبالغة في تعظيم السيد اتقاء لشره أو طمعاً في رضاه”.
-أهمّيّة الموضوع:
تكمن أهمّيّة الموضوع في هذه الدراسة، في أنّ الرّواية المدروسة والجديدة على السّاحة الثقافيّة “يا دمشق وداعاً” -حيث صدرت عام 2015- مفعمة بالشّخصيات المتصارعة؛ فالشخصيّة السّادية تواجه في الحياة عامة وفي هذه الرواية خاصة، نوعين من الشخصيات:
1) إمّا أن تواجه شخصيّة مازوشيّة، وهذه تعدُّ من أسهل الشّخصيات في تحقيق السيطرة عليها كليّاً. “فجوهر السّاديّة ولبّها هما علاقة سطوة، لا يستطيع المتسلط السادي أن يكون إلا من خلال التّعزيز الدائم لسطوته.
وهذه لا تتعزّز إلاّ بمقدار إضعاف الطّرف الآخر في العلاقة، تحطيمه والاستحواذ الكلّي عليه، وتصل غايتها عندما يعترف هذا الطرف المازوشي بسطوة السادي ويقر بعجزه إزاءه”.
وهذا ما يلحظه القارئ في هذه الرّواية، حيث كان الأب السّادي عبد الفتّاح يعاني من داء التّمرد الذي أصاب ابنتيه بفضل البطلة زين، وهذا ما لم يرضِ زوجته (المازوشيّة) الّتي كانت راضخة لسلطة الزوج، راضية بأنَّ له الحق في الحكم والسّيطرة، ثمّ تشكو أنّ ابنتيها تحولتا من حالة الخضوع والرّضوخ المازوشي إلى حالة التمرّد فتقول: “لم تعد فضيلة وحميدة داجنتين كما يجب أن تكون المرأة”. ثم يُطرح الأب عبد الفتاح على فراش المرض، حيث “ازداد مرضاً لأنه لم يعد يمارس سطوته على بنات البيت الكبير في زقاق الياسمين”.
2) وإما أن يواجه السّادي شخصيّةً متمرّدة، وهنا يبرز جوهر الصّراع والتّحدي؛ إنّه الصراع من أجل إثبات الذّات، فالسّادي “لا يستطيع أن يحسّ بالوجود إلاّ من خلال تبخيس الآخر، وتسبُّب الآلام له، لا يحسّ بالقوّة إلا من خلال التّحقّق من ضعف الضّحيّة، ولا يستقرّ له توازن إلاّ حين يدفع بذلك المقهور إلى موقع الرّضوخ العاجز المستسلم”. وفي المقابل، فإنّ التمرّد “إنسان يقول: لا، ولئن رفض فإنّه لا يتخلّى عنه فهو إنسان أيضاً يقول: نعم، منذ أول بادرةٍ تصدر عنه، إن العبد الذي ألف تلقي الأوامر طيلة حياته يرى فجأة أن الأمر الجديد الصادر إليه غير مقبول”.
وهنا تحط الإشكالية رحالها عند هذه القضية، من الذي سوف ينتصر؟ السادي أم المتمرد؟ وهذا ما يبرز بشكل لافت في الرواية مع شخصيات عديدة، ولا سيّما مع البطلة زين، تلك الفتاة المتمرّدة الّتي أثّرت في كلّ الشّخصيّات، وتركت أثراً كبيراً في نفوس معظمهم، حيث شجّعت الراضخين الذّين تجد في نفوسهم بذرة التمرّد المكبوتة على إظهار ذاك الرفض، وبالتّالي إعلان الثورة “إذ لا يعمّ استخدام القوّة والتمرّد كلَّ الشّعب مباشرة، لا بدّ في البداية من قلّة تقود هذا العمل، وتتماهى الجماهير بهذه القلّة متمثّلة بشيءٍ من بطولتها، وجاعلةً منها رموزاً للجماعة”.
ومن هذه القلّة كانت زين البطلة، حيث أصبحت رمزاً للثّورة في عيون الفتيات والشبّان، بوصفها تمرّدت على التّقاليد التي تنصُّ بأنّ الرّجال هم من يحدّدون الزّوج للفتاة، إلاّ أنّها اختارت بنفسها الشّخص الذي أحبّته، ثمّ بعد أن اكتشفت أنّها خُدِعَت بحبّه لها اقترفت جريمتين (بنظر مجتمعها)؛ الإجهاض أولّاً وهو من المحرّمات، ثمّ إعلان طلب الطّلاق وهو المحرّم الأكبر، فصرّحت عائلتها بأنّ ما قامت به زين هو العار الفادح على العائلة كلّها، فتقول إحدى العمّات: “ليس في أسرتنا حتّى طلاق واحد”!
“فالمرأة تشكّل مثالاً صارخاً على الإستلاب، إنّها ملكيّة جماعيّة، فكيانها ليس ملكاً لها، ليس لها أن تختار وبالتالي ليس لها أن تناقش أو تفكّر وتحلّل، عليها أن ترضخ للسّلطة، أن تكون موضوعاً وأداة”. في المقابل تتمرّد زين على هذه الأعراف صارخةً: لن أسمح لأحدٍ بعد اليوم بالتّدخل في قراراتي حتّى بإبداء الرّأي”.
لكنّ التمرّد الذي أعلنته البطلة، جعلها تدفع الثّمن غالياً، حيث تلقّت العنف المعنوي من الجميع “فالكل شامت بزين لأنها تمردت”..
“فكل حركة فكرية تصبح إثماً يستحق العقاب الشديد (النبذ، التصفية، السخرية، فقدان المكانة…). وهذا ما تعرضت له البطلة، ولا سيّما من خلال السّخرية منها وفقدانها مكانتها، فضلاً عن قيام ابن عمّها بذبح بومتها المفضّلة على فراشها، فكان بمثابة التهديد لها.
كما واجهت زين بعض الشخصيّات الإضطهاديّة، التي “تفتّش عن مخطئ يحمل وزر العدوانيّة المتراكمة داخليّاً، فهي لا تستطيع أن تكتفي بإدانة ذاتها، إنّها بحاجة إلى إدانة الآخرين ووضع اللّوم عليهم.. حيث لا تستطيع أن تتحمّل مسؤوليّة ذنبها، لأنّ العدوانيّة في هذه الحالة تهدّد وجودها”، وهذا ما يلمسه القارئ مع شخصيّة فضيلة، التي حمّلت زين مسؤولية إخفاقها في محاولاتها رفض الرجل السّادي مطاع، ذاك الذّكر الذي لا يقيم للمرأة وزناً، وقام باغتصاب فضيلة قبل اسبوعين من “كتب الكتاب”، كي يتأكد من بكارتها..
-أسباب إختيار الموضوع:
تكثر الشخصيات في الرواية المدروسة الّتي تتراكم في أعماقها الأمراض النفسية، والعقد الدّفينة فمجتمع الرّواية يتصارع بين من يريد أن يفرض سلطته، ومن يريد أن يحطّم تلك السّلطة، وتحاول هذه الدّراسة كشف مسار ذاك الصّراع، والبواعث التي أدّت إلى إشعال التّحدي، فضلاً عن أواليات الدّفاع التي يستخدمها كلُّ طرفٍ من أجل تحقيق التوازن في كيان كلّ من الطرفين.
وهذا ما جعل الدراسة تكتسي ثوب الفرادة، حيث أجمع النقاد في مقالات قليلة، على أنّ الرّواية تُعدٌّ أنموذجاً أدبيّاً يعكس انغلاق المجتمع الدّمشقي لا سيما “زقاق الياسمين”، فيجد القارئ أنّ هؤلاء النّقّاد قد اكتفوا بالمعطيات الظّاهرية للرّواية، وأغفلوا الخفايا الدّاخلية للشخصيّات والبواعث النّفسية للصراع المعلن، علماً أنّ الأخيرة تُعدُّ الأكثر أهميّةً في الرواية، لذا جاءت هذه الدراسة لتسبر أغوار شخصيات “يا دمشق وداعاً”، وتستخرج عقدها النفسية الهائلة.
فضلاً عن أن أحداً لم يتطرق لدراسة الرواية دراسة أكاديميّة منهجيّة، نظراً إلى حداثتها حيث صدرت في كانون الثاني عام 2015، والجدير ذكره أن الدراسة سوف تغني المكتبة العربية، لأنها تستعين بمنهج التحليل النفسي للأدب.
الإشكاليّة:
يهدف هذا البحث إلى معالجة إشكالية محوريّة، تتفرع عنها تساؤلات فرعية:
يشهد القارئ صراعاً سادومازوشيّاً في أسرة عبد الفتّاح:
• فكيف تجلت السّادية الذكوريّة في هذه الأسرة، في شخصيّة كلٍّ من: عبد الفتّاح وابنه وصهره مطاع؟
• وإلى أي مدى رضخت نساء الأسرة لسلطة القمع هذه؟ ولِمَ اقتصر الرّضوخ المازوشي على الزّوجة بوران في الوقت الذي تمرّدت فيه كلٌّ من ابنتيها: حميدة وفضيلة؟
• وما هي الأسباب الإيديولوجيّة (من ناحية السلطة والمجتمع) والنفسية (من ناحية الأسرة) التي ساهمت في حقن كل من تلك الشخصيّات بالعقد النفسيّة لاسيّما السادومازوشيّة؟
• ولِمَ تغيّرت ردّات الفعل بين من رضخ ومن تمرّد، لا سيّما أنّ جميع الأفراد يعيشون في أسرةٍ واحدة ؟
تعدّدت الشخصيّات والأُسَرُ في الرواية بين
أسرةٍ يتصارع أفرادها، وأخرى تنعم بالتحرّر والتمرّد:
• كيف ساهمت الحادثة التي وقعت لحظة ولادة زين ( موت والدتها بسبب رفض الرجال أن يأتوا بطبيب ذكر) في قلب موازين الأسرة رأساً على عقب؟
• وكيف تجلّى التمرّد في أقوال شخصيّة البطلة وأفعالها؟ وإلى أي مدى استطاعت التأثير في محيطها نحو التحرّر؟
• ما هي الأسباب الّتي جعلت الأب “أمجد الخيّال” متسامحاً مع ابنته، ومتحرّراً ومتمرّداً على سلطة الأنا الأعلى، في حين أنّه مُحاوطٌ بمجتمعٍ ذكوريّ منغلق؟
-الفرضيّات:
• قد يكون الجهل والفهم الخاطئ للدّين(سلطة الأنا الأعلى)، هو السّبب الرّئيس في حقن شخصيّات الرّواية بمرض السّاديّة.
• ربّما تكون الزوجة بوران ترضخ رضوخاً مازوشيّاً بغية الاستمتاع بلذّة ساديّة الرّجل عليها وقمعها، أو أنّه لا حيلة لها أمام الواقع المعيش في مجتمعها فرضخت.
• قد يعود تحرّر فكر أمجد الخيّال وتسامحه مع ابنته الوحيدة، بسبب عقدة الذنب التي لاحقته مدى عمره.
• قد يكون موت والدة زين لحظة ولادتها (النكوص إلى المرحلة الطفوليّة) هو السبب الرّئيس في خلق شخصيّة متمرّدة كشخصيّة “زين” تحرّض الشخصيّات كافّة على التمرّد والرّفض.
-المنهج المتّبع:
لا شكّ في أن لكلّ دراسةٍ منهجاً ينبغي الإعتماد عليه، والمنهج المتّبع في هذه الدراسة هو “منهج التحليل النّفسي للأدب”، ذلك أنّ الحقيقة المتوخّاة في الأساس من العمليّة التحليليّة للمنهج النّفسي، هي السببيّة النّفسية التي كانت وراء الظاهرات التي شكّلت كليّة المنتج الفنّي والأدبي”.
ولعلّ سبب اختيار هذا المنهج يعود إلى الوصول إلى خفايا شخصيات الرواية التي تنطوي على نشاط باطني ولاشعوري، ورغباتٍ مكبوتة، لذا تأتي ضرورة تفسيرها في ضوء المنهج النّفسي التحليلي “لأنه المنهج الوحيد الذي يختص بتحليل اللابشعور”.
بيد أن الإعتماد على هذا المنهج لا يعني اختزاله إلى مدرسة واحدة، إذ سوف يتم الإستفادة من فرويد وتلاميذه الذين أنشقوا عنه.
إنّ الأساس الذي يقسّم عليه فرويد التّحليل النّفسي هو تقسيم الحياة النفسيّة إلى ما هو واعٍ وما هو غير واعٍ.
ويرتبط مفهوم “الأنا” عند فرويد بالوعي، “فالأنا يدرك، يخاف، يقاوم، يخضع، يمثّل مجمل الشخصيّة، والجانب المتصارع مع الحياة الجنسيّة المهدّدة لمصالحه.. يقوم بمهمّة حفظ الذّات ويقبض على زمام الرّغبات الغريزية التي تنبعث من الهو، فيسمح بإشباع ما يشاء منها ويكبت ما يرى ضرورة كبته”.
ولعلّ هذا ما يشهد القارئ لرواية “يا دمشق وداعاً” حيث يلاحظ أنّ هناك صراعاً حادّاً في أعماق شخصيّاتها، فيجد القارئ – على سبيل المثال لا الحصر – صراع “أنا” المرأة بين رغبتها في التمرّد وبين خضوعها المازوشيّ لسلطة “الأنا الأعلى” الذي يجبرها على الخضوع للرّجل الذكوري الذي يقمعها، فتكبت رغبة التمرّد، وتنفّس عن الكبت بالحلم أو بتعنيف أطفالها…
فضلاً عن أن البطلة زين كانت مُحاربةً من المحيط الذي رفض تمرّدها، الأمر الذي عرّضها إلى التّعنيف المعنوي والإزدراء والإهمال. ما جعلها في صراع دائم مع مجتمعها المحيط منذ بداية أحداث الرواية وانتهاء بنفيها خارج ذاك المجتمع.
هذا الصراع هو ما تكلم عليه “فرويد”، حيث يقول أن هناك “صراعاً دائماً بين مطالب الفرد ومتطلّبات المجتمع، هو صراعٌ بين الغريزة والحضارة، بين الرّغبات الجنسيّة الفرديّة التي تطلب الإشباع وموانع المجتمع. وهذا الصّراع يجعل الأفراد يتوجّهون بعضهم إلى بعضٍ بنزعة عدوانيّة تدميريّة.
ولكي يقوم المجتمع يحوّل الأفراد نزعاتهم إلى الخارج، وبهذا يفسّر فرويد قيام الجماعات، وبالتّالي قيام الحروب والتصفيات العرقية والدينية”.
وما يثير القارئ فعلاً، هو أنّ هذا الصّراع الإحتماليّ النّفسيّ، لا يقتصر على بلدٍ دون آخر، أو عصرٍ دون آخر، إنّما ينتقل من زمن إلى زمن، ويتوارث عبر الأجيال وهذا ما يُسمّى باللّاوعي الجمعي الذي تكلم عليه “يونغ”.
حيث ظهر ذلك في الرواية من العادات الاجتماعيّة القامعة، والتي سعت البطلة زين إلى التخلّص منها، حيث يخضع لها المجتمع الدمشقي خضوعاً مازوشيا “لا واعياً”، فالوعي الفرديّ المتمثّل بالبطلة “زين”، قادرٌ على خلق وعي متحرّر، يسعى إلى توعية الجماهير الخاضعة، وبالتّالي التحوّل بالمجتمع من حالة الخضوع اللاّواعي إلى حالة الثّورة على القمع والسّاديّة.
لذا، وبناءً على ما تقدَّم، تقف الدراسة هنا أمام نوعين: مرض نفسي/ ومرض اجتماعي.
“فإنّ أكبر حليف للمرض الاجتماعي هو المرض النّفسي في بعده اللاّواعي، وإنّ أكبر متواطئ مع الإضطراب الاجتماعيّ نحو الإضطراب النفسيّ الذي يصاحبه، ويشكّل وجهه الخفي”.
أخيراً، الجدير ذكره أنّ المنهج المتّبع في هذه الدّراسة وهو منهج التحليل النفسي للأدب، لا يقتصر على تيّارٍ دون آخر، إنّما يستفيد من آراء كلّ من فرويد وإدلر ويونغ وآخرين…
لأنّ شخصيّات الرّواية وصراعاتها تعكس مفاهيم وطروحات عميقة، تجد الإجابة عنها في الطروحات العديدة الّتي أسّسها روّاد علم النّفس الأوائل.
نقد المدونة:
“يا دمشق وداعاً”، هي رواية صادرة عن منشورات غادة السمان للكاتبة السورية غادة السّمّان، صدرت في الأوّل من كانون الثّاني العام 2015.
والرّواية تكتنز بين دفّتيها 204 صفحات من الحجم الكبير، مقسّمة إلى ثمانية فصول، كلّ فصلٍ يحتوي على عدّة عناوين (اثنين أو ثلاثة)، حيث تعطي الكاتبة الحرّيّة للقارئ في اختيار العنوان الذي يراه مناسباً للفصل مع شطب العناوين المتبقّية.
تعكس هذه الرواية على صفحاتها، الحياة الاجتماعيّة السوريّة في دمشق، مطلع الستينات من القرن الماضي، حيث تصوّر الواقع السّوري القديم بأعرافه وتقاليده ومشاكله وانقساماته، ثمّ نجدها تتمرّد على خضوع ذاك المجتمع لتلك الأعراف القاسية والتقاليد التي لا مسوغ لها.
فيجد القارئ استغلال رجال السلطة لمناصبهم بفرض تحقيق أهدافهم المادية، ناهيك عن العادات التي تقمع الأجيال الشابة فكان الحجاب والبرقع مفروضاً على المرأة، منذ نعومة أظفارها إلى مماتها، وزواجها يحدّد من قِبَل الرجال، ممّن تراه القبيلة مناسباً لمصاهرته، أمّا هي فلا رأي لها ولا حق لها بالرفض والإعتراض.
ثم يلحظ القارئ كيف يعدُّ الزوجُ زوجتَه بضاعةً فاسدة، وله الحرّيّة في مصاحبة العشيقات، وما على الزوجة إلاّ الطاعة والقناعة، مع الحق له في ضربها وشتمها متى أراد، فتلك من علامات رجولته بين رجال الحارة.
فضلاً عن الأهل الذين يقتطعون أولادهم من المدارس، فالفتيات تُزوّج في سنّ الخامسة عشرة، أمّا الصّبيان فعليهم أن يمتهنوا حرفة أبيهم، فالآباء يستخفون بعقولهم، ويستبعدون منهم المهن المرموقة كالطبابة والمحاماة أو الهندسة، تلك المهن تعدٌّ لأبناء السلطة والطبقة البرجوازية حصراً.
بهذه الطريقة، صورت غادة الواقع السوري في ذلك الوقت، لكنّها لم تكتفِ بالتّصوير، بل تمرّدت على ذاك الواقع، فخلقت نماذج تنطق بلسانها، حيث كانت البطلة زين متحرّرة من ساديّة القمع، وأضحت الشّعلة الثّائرة التي حثّت مجتمعها على الرّفض والتمرّد، ثمّ جعلت نساء الحي يحتذين حذوها، فيتمرّدن ويرفضن القمع بعد أن كنَّ خاضعات راضخات، وكل واحدة تمرّدت بردّة فعل تختلف عن الأخرى.
وهكذا، يجد القارئ أن الرواية كانت أداةً فعالة في محاربة السلطة والأعراف الاجتماعية والأسرية القامعة والتي لا تمتّ للعدل بصلة، رافضةً الوعي الجمعي السّادي، محاولةً خلق وعي جديد يحلّق في سماء الحرية.
-نقد المصادر والمراجع:
قدّمت غادة السّمّان نحو خمسين كتاباً في الرّواية والقصّة القصيرة، والنّقد الأدبي، وأدب الرّحلات والشعر، ما جعلها تُعدُّ من أبرز الأسماء العربيّة الحاضرة في مشهدنا الثّقافي العربي والغربي؛ ونظراً إلى كتبها التي ترجمت إلى لغات عديدة، فمن الطّبيعي أن تحظى هذه الكتب بالعديد من الدّراسات والمقالات المتنوعة.
لكن نلاحظ أنّ الرواية المطروحة لم تحظَ بدراسات نقدية، بسبب حداثتها، حيث صدرت في العام 2015.
إلاّ أن بعض النّقاد والدّارسين، تطرّقوا إلى عرضٍ مختصرٍ لأحداث الرّواية عبر المواقع الإلكترونيّة وفي بعض المجلاّت، ثمّ قاموا بعرض آرائهم فيما يخص الرواية بشكل عام، والروائية بشكل خاص.
1- فيقول النّاقد “هيثم حسين” في مقالٍ بعنوان “يا دمشق وداعاً..غادة السّمّان وفسيفساء التّمرّد” : “تحاول صاحبة الرواية الإنتصار لصورة مدينتها دمشق التي تودعها واقعياً وتحتفظ بها في خيالها ووجدانها، وتؤرخ للأمكنة الدمشقية قبل أن يطالها العبث والتشويه على أيدي الغرباء عن دمشق”.
2- أما الناقد “فايز علام” فقال في مقالٍ له بعنوان “مراجعة رواية يا دمشق وداعاً- فسيفساء التمرّد : “تعاود غادة السمان في روايتها الجديدة “يا دمشق وداعاً، خلق مدينة دمشق شوارعها وأزقتها ومطاعمها وفنادقها وحدائقها كما كانت في الستينات من القرن الماضي… وتتابع غادة السمان في ورايتها هذه سيرة “زين الخيال” بطلة (الرواية المستحيلة)، التي تلتقي في كثير من مفاصلها وحكاياتها مع سيرة الروائية نفسها. فرغم محاولاتها في نفي ذلك، يلمس المتابع لها ولكتاباتها مدى قرن زين وأحداث حياتها من “غادة السمان” والتجارب التي عاشتها”.
3- أمّا الناقدة الصّحفية “ريتّا فرج” فقد صرّحت في جريدة الأخبار في مقالها بعنوان “غادة السّمّان مسكونة بالتّمرّد”، بأن الرّواية “تعكس في المرتبة الأولى معاناة المرأة في المجتمع الدمشقيّ المحافظ، الذي كانت زين جزءاً منه، كلُّ شيء داخل تركيبته المجتمعيّة يخضع للرّقابة، لا سيّما النّساء المتمرّدات… وكلُّ شيء مسكونٌ بالتمرّد: اللّغة، الوصف، الأحداث، الحبّ، الموت، السّياسة، والوطن والمنفى الإختياري الذي نقلها إلى رحاب العالم”.
4- فضلاً عن المقال الذي كتبه الباحث الدّكتور أنور الموسى، بعنوان: “يا دمشق وداعاً، قراءةٌ في روايةٍ تنبض بالثّورة والصراع” حيث يقول: “جليٌّ أنّ رواية السّمّان لا تزال بِكراً؛ وهي تفتح ثنائيّة الخضوع/التّمرد على مصراعيها أمام دراساتٍ أكاديميّة جادة.. والرّواية مفعمةٌ بدلالاتٍ سيكولوجيّةٍ واجتماعيّةٍ وعُقدٍ.. آيةُ ذلك أنّها مغلّفة بعقدة أوديب وإلكترا، ونقصٍ وصراع طبقيّ واضح المعالم.. ثمّ يتابع قائلاً: باختصار، إنّها فسيفساء التمرّد، تستمرُّ في شدِّ القارئ حتّى معرفة الشخصيّة الأنثويّة المتمرّدة في مجتمع عربيّ مكبل.. مجتمع وصل إلى الحضيض.. جعل الرّوائية السّمّان تصرخ قبل الغرق.. وربّما بعده: يا دمشق وداعاً!”.
جليٌّ أنّ هذه الآراء لم تعر أهميّةً للبواعث النفسيّة الّتي غلّفت سلوك شخصيّات الرّواية. ثمّ إنّ هذه الآراء لم ترتقِ إلى مستوى الدّراسات الأكايديميّة التي تتبنّى منهجاً تحليليّاً، وإن كان نقد الباحث أنور الموسى قد تعرّض إلى الجانب النفسي والبُعد السّيكولوجيّ لأعماق الشّخصيّات، إلاّ أنّ هذا العرض كان مُختصراً ولم يتّبع في مقاربة الرّواية المنهج والمنهجيّة الأكاديميين، إنّما قدّم مفاتيح للقرّاء حتّى يرتقوا بدراستهم للرواية المذكورة إلى الدراسة الأكاديمية الجادّة، التي تعتمد المنهج النفسي والمنهجيّة الأكاديمية المطلوبة.
لذا تحاول هذه الدّراسة ردم تلك الثغرة، من خلال تبنّي منهج التّحليل النفسي للأدب بهدف التغلغل إلى داخل أعماق شخصيات الرّواية.
وهناك دراسة نقديّة تناولت غادة السمّان، هي للباحثة “باولا دي كايوا” بعنوان “التمرّد والإلتزام في أدب غادة السمان”، وقد ترجمتها الباحثة نورا السمان، وصدرت عن دار الطليعة،ـ العام 1992.
هذه الدّراسة تعرض إشكاليّة قريبة من الموضوع المطروح، وهي التّحرر من سلطة القمع السّادي. وقد عرض الكتاب حياة غادة السمان، ثم بيّن التزامها في جميع كتاباتها، حيث تطالب النساء وتحثهم على تغيير حياتهن على الدّوام.
بيد أنّ رواية “يا دمشق وداعاً” لم تحظَ بعناية الباحثة دي كابو، ومع ذلك فإنّ الكتاب سوف يعين الباحث في فهم إيديولوجيّة الروائيّة واتجاهها الفكري، وسوف يكسب البحث غنىً في معرفة شخص الروائيّة.
إضافة إلى الكتاب السّابق، هناك دراسةٌ للباحث “جان طنّوس”، بعنوان “العنف في الرّواية العربيّة” هذه الدّراسة هي جزءٌ من أطروحة الباحث للدكتوراه والتي كانت بعنوان “السادومازوشية في أدب توفيق يوسف عوّاد”. يعدُّ الكتاب من الدّراسات الغنيّة الّتي صدرت عن دار النّهضة العام 2012، فتناولت أدب التمرّد والإنسحاق في الرّواية العربية.
هذه الدراسة لم تتعرّض لأدب غادة السّمّان من قريبٍ أو بعيد، إلاّ أنّ الباحث قد يستفيد منها لأنّها تسلّط الضوء على السّادومازوشيّة والعنف والقمع الأسري والاجتماعي، وهذا ما برز بوضوح في إشكاليّة البحث المطروحة.
مخطّط الرّسالة:
-المقدمة: تتناول حدود الموضوع، وأهميّته وأسباب اختياره، وتطرح الإشكاليّة والمنهج المتّبع، ونقد المدوّنة والمصادر والمراجع.
-الفصل الأول: “الصراع السادومازوشي في أسرة عبد الفتاح”
-المبحث الأول: “سيكولوجيّة الرّجل السّادي المسيطر على شخصيات الرواية”
أ- شخصية عبد الفتاح:
• أثر ثقافته ومزاجه وطباعه في سلوكه السّادي.
• مواقفه السادية وسلوكه العنيف:
1. التعنيف اللفظي المستمر
2. التعنيف الجسدي
3.حرمان زوجته من الجنس
• العقد النفسية التي يعاني منها:
1. عقدة العار في سلوكه العنيف
2. نزوة السطوة في علاقته مع الآخر
ب- شخصية الإبن السّادي في الأسرة
1- تماهي الابن بأبيه بكل أفعاله وتصرفاته
2- ممارسته العنف الجسدي والمعنوي على أخوته( عقدة قابيل وهابيل).
ج- المظاهر السّاديّة في شخصيّة الصهر (مطاع):
1- تحقيره للمرأة
2- ممارسة الإغتصاب دفاعاً عن رجوليته
3- عقدة النرجسيّة في سلوكه وكلامه
المبحث الثاني: “المرأة بين رضوخها المازوشي والرفض”
أ-الأمّ المازوشية الرّاضخة لسلطة الزّوج (الأب البديل)
1- أثر ثقافتها ومزاجها، وطباعها، في سلوكها المازوشي
2- رضوخها المازوشي للزوج (جسدياً ومعنوياً)
3- التّماهي بشخص الرّجل في التربية
ب- المظاهر الاضطهاديّة في شخصيّة فضيلة
ج- اللامبالاة في شخصيّة حميدة
الفصل الثاني: “التمرد في أسرة أمجد الخيال”
أ- المبحث الأول: “صورة المرأة المتمردة (البطلة زين)”
1- مراحل طفولتها وموت والدتها.
2- أفعالها المتمردة:
• اختيار الزوج (شبيه الأب البديل)
• اجهاض الجنين
• النّقفور من الأب البديل وطلب الطلاق
• جلوسها في مقهى الرجال (التماهي بالرجل)
• الكتابة الصحفية في الجريدة
3- مجابهة السلطة (الأنا الأعلى)
4- تحريض الفتيات على الثورة ورفض السلطة الذكوريّة
5- التعويض عن النقص والتسامي في عملية الكتابة الأدبية
6- عواقب التمرد:
• النفي من وطنها الأم (الحنين إلى الفردوس المفقود)
• وفاة الأب و(السلطة الأبوية) والإصابة بالإحباط
المبحث الثاني: “أمجد الأب المتسامح الضعيف بين الهو والأنا الأعلى”
1- الدلالات السيكولوجية لتسامحه الأبوي مع ابنته
2- ضرب العادات والتقاليد السائدة بعرض الحائط(التمرّد على سلطة الأنا الأعلى)
3- إعطاء الابنة كامل الحرية المطلقة “غير مقيدة”
4- معاناته من عقدة الذنب
5- الآثار السلبية للتسامح بين خسارة ابنته إلى جانبه وعقدة أوديب
الخاتمة: تلخّص ما توصّل إليه الباحث من نتائج مع التّوصيات.
لائحة المصادر والمراجع
……………..