دراسة في ديوان الشاعر محمد العتيق
عوض الأحمد
صدر الديوان الشعري الجديد للشاعر محمد سعيد العتيق, بعنوان (طرائدُ النُّور). من دار العراب للطباعة والنشر عام 2016م.
ويتضَمن إحدى وعشرين قصيدة, مُرفقة بثلاث عتبات. تحتوي على إهداء ورؤى وإضاءة.
فـ(طرائد النُّور) عنوان انزياحي وتركيبي ودلالي. من حيث الإخبار عن المؤنث بالمذكر، وإحداث رجعية جديدة متوافقة مع القصائد، ومخالفة المرجعية المعيارية بين الدال والمدلول.
فالطريدة مفردة تشي بالصيد وما يصطاد من حيوانات وطيور، أما النُّور فيدل على مكامن الضوء في الروح والتمسك بأنوار الروح والطمأنينة، والسعادة وتبديد ظلمات النفس، والنّور الرباني.
مَدائنُ الرّوحِ وَالرؤيَا بَلَتْ جسَدَا كنهُ التشظِّيْ وَفي أرواحنَا انعقدَا
مالِي أخالُ الدُّنا شِقَّينِ منْ صَلفٍ وَموقِدُ الجَمرِ رغمَ المَاءِ ما بَردَا
فِلقٌ منَ النورِ فِي النِّيرانِ مُؤتَلِقٌ فِلقانِ ضِدَّانِ مَا انشقّا وَلا اتَّحدَا
هذا أنَا وَاللّيالِي تَشتَهِي حُلُمِي ليبصرَ الأمسُ منْ حلْمٍ أضاءَ غدَا
أنَا الظَّميُّ وَآفاقِي بِلا سُحُبٍ قلبِي الصَّحارَى مَتَى ألقاكَ يا بَردَى
ولما كان العنوان عتبة من عتبات النص، فقد كان مفتاحاً لكل نص، فجاء النص الشعري غني بدلالاته وبنيته الداخلية مسمّداً كل ذلك من حياة ورؤى مبدع هذا النص.
وقد نلحظ المباشرة والوضوح في بعض عناوين القصائد: (في الزَّمن القادم أحيا، سلاف القصيد، ألم الفراق، الأنثى الملاك).
وإلى جانب ذلك نقرأ العناوين الانزياحية، والمرمزة والكثيفة والدلالية (نصف ونون، سحائب الرماد، على شفير الأقحوان، وابل الرباب، آهي وجمري، أيا أنت).
والتدفق الوجداني سمة من سمات هذه القصائد وهي نابعة من رؤية إنسانية وطنية صادقة ومخلصة، فالشاعر يملك مكونات روحية وثقافية ومشاعر عاطفية وانفعالية نبيلة مَكنته من خلق النص الشعري بهذا الشكل الذي نراه في الديوان.
فالظاهرة الروحية والصفاء النفسي وسِحْر الجميل عوامل ساهمت في رسم معالم قصائد العتيق، فهو بعيد عن السوداوية والتشاؤم حتى في الأوقات الحالكة.
الحالكاتُ لنا ضياءٌ يبرقُ
فَهُنا العُلا والمكرُمات و جلِّق
ما رُمْتُ من مجلدٍ يُطوَّعُ عُنْوةً
فالمجد يسعى في ركابي يألَقُ
تنأى النُّفُوسُ عن الصَّغَارِ عظيمةً
وتِعفُّ عن بُخلٍ ولا تتملَّقُّ
ويرى الشاعر بأن لا خير في الشعر إذا لم يوظف في حب الوطن والدفاع عن الفقراء والسمو بالذات الشاعرة الفطرية
لا أكتبُ الشِّعرَ إنَّ الشّعْرَ يكتبني
خمراً تعتقَ في الأرواح من زَمنِ
أَوقَفْتُ شعري للأوطان مِلحمة
يهناكَ سَعْيُك للعلياءِ يا وطني
كالياسمين على أكتافِ عاشقةٍ
عِطرٌ تسلّل من فِردَوسها العدن
ما أكتــبُ الشِّعر إلّا اجتاحني سكرٌ حــــــــــــــــــــــــــــــــــــتى غدوتُ كأني كنــــــــــــــتُ لم أكــــــــنِ
ويستحضر الشاعر العتيق المكان (الشآم) ويقف طويلاً في وصفه، من خلال استحضار الحالة السورية والتنديد بهؤلاء الذين باعوا الديار شوهوا سوريا وسفكوا دماء الأبرياء، فيصفهم بالخوارج فقد ضلَّت سيوفهم بدم الأبرياء، ولا سيما الأطفال، (أطفال الرصيف) والشيوخ والنساء والضعفاء.
فالمكان الذي كان طافحاً بالحُب والسلام والخير والجمال، أصح طافحاً بالرعب والحزن والدمار والقتل، فَصُوَرِ الأطفال والطيور والحيوانات تعبر عن ذلك.
بئس الرّجال كما الغُثاءُ بموطني
باعُوا الدِّيار وشوهوا سوريَّا
فالحُزنُ ضجَّ على شفاهِ سَمائنا
والدمعُ قرّح بالنَّوى جَفنيا
طفلُ الرَّصيف قصيدةُ شربت دمي
ففمي هباءٌ لا صراخ لدَيّا
يا شامُ قومي صار جرحُكِ وردَةً
والفجر آت يا شآم سنيا
استحضر الشاعر الشَّام ولا سيما دمشق في أماكن كثيرة في ديوانه (طرائد النُّور) مؤكداً على شموخ وبقاء الشام، من خلال بناء تشكيلات صوريه جديدة موحية.
إنَّ الشَّامَ عروسٌ كم تُزينُنا
مابالُنا سَفهاً نغتالُ ذا البلدَا
وخجلتي قبسُ التَّاريخ من نُسُك
يغتال أسودُها في الشَّام من سجداً
ونجده يتعاطف مع شعب العراق ومصر والشام في المحن والمآسي ويجد بأن الفوضى والغدر وحّدت العرب، وتتبلور هنا لدى الشاعر رؤية واقعية سوداء بين الوطن والذات.
توحَّدنا على فوضى وغدرٍ
فواخجلي وربي أن أقولا
بكيتُكَ يا عراقَ الجُود (دجلا)
وقَبْلَك كم بكيتُ الـ(مِصْرَ) نيلا
وهذي الشَّام يا بردى تعاني
فهل روَّى العِدَى مِنَا الغلِيلا؟!
تحاول الذات الشاعرة الخروج من الواقع المأزوم، واقع القهر والفقر والمرض والتخلف والظلم، ويطمح إلى النهوض من هذا الواقع المشوّه، فيكتشف الداء والدواء ويجد السبب لانكسار الأحلام، حملت القصيدة أفكاراً وتداعيات وهموماً، إنه زمن الضياع والتمزق والاحتضار.
(ماتَ الضمير، / وَكُلُّ حي يألمُ / ماذا أقولُ.. /
وأيُّ قولٍ يُفْهمُ؟ / لا نخوة عربية / والصَّمتُ فينا صادِمُ /
والعُرْبُ طال شخيرُهم / يتوسَّدُون حريرهمُ /
ريشُ النَّعَامِ.. سَريرُهم / جلفٌ تقاذَفَه السَّفر /
في الهند في السِنْدِ .. / البعيدِ وفي المجَرْ
يبتاعُ أَرداف الغواني / في دجِيّات السَّحَرْ
وَجْهٌ جَمِيْلٌ بَاسِمُ … عَيْنَاهُ طَيْرٌ هَائِمُ
وَ أَنَا لِعِقْدِكَ يَا صَغِيْرِي نَاظِمُ
أتُرَاكَ حَقَّا يَا صَغِيْراً هَدَّنِي
أمْ أّنَّ حَرفِيَ يَا حَبِيْبِيْ وَاهِمُ
وفي قصيدة (عُمي القلوب) يسخر ويتهكم بالواقع العربي فقد أصبح النفط وبالاً على العرب ومصدر تخلفهم.
ونفط العُرب مَسلُوبٌ بأرضي
فليت النّفطَ من أرضي أُزيلا
وأموَال تغذي حَرْب أهلي
نموتُ بمالنا مَوْتاً وبيلا
فَنِصفُ العُربِ منبطحٌ ذليلٌ
و بعض العُرْب قد أمسى عميلا
وللمرأة أو الحبيبة الوطن حيز كبير في (طرائد النّور) ولا سيما القصيدة التي حملت عنوان (الأنثى الملاك)، يبوح الشاعر عن حبه وعشقه من خلال تداعياته وعوالمه النفسية، ويقدم بوحاً وجدانياً شفيفاً وعشقاً عذرياً، وغالباً ما يقدّم ذلك من خلال صور حسية جسدية وتشبيهات مشهدية تعبيرية مثل: (حسن عينيك، وجفنك أكحل، الوجنتان من التَّوردِ وردتان، من الحياء تُشعشِلُ، قمرية الوجه، السحر في الرموش كلؤلؤ، وجدائل.. ليل طويل، جيد الحبيبة روضة، الصوت مثل هديل الحمام).
مِنْ حُسن عَيْنيكِ الذي قطرَ الندى
عشقَ الهوى رِمشاً وجفنُكِ أكحلُ
والوجنتان من التَّوَرُّدِ وردَتا
ن كشمعتين من الحياء (تُشَعشِلُ)
مَهما وَصَفْتُ شفيفة القَدّ الشَّذا
أترى سأنصف ذا الجمالِ وَأعدِلُ
أما الصورة الشعرية في (طرائد النُّور) جاءت كرغبة كامنة عند الشاعر لإعادة خلق عالم خاص من صنعه وخلقه فالشاعر خلّاق، تتمثل فيه رؤيته الفكرية والكونية للعالم، والتقنية التصويرية قائمة على التشبيه في أكثر الصور، ومن ثم الاستعارة والانزياح والرمز والأسطورة. وفي صوره الشعرية غالباً ما يجمع بين الثنائيات والتضاد، ومن سمات الصور الشعرية لدى الشاعر…
الصورة الحسية المشهدية التي هي نتاج الشاعر الرائي وحدسه الحسي القائم على الانطباع المباشر تجاه الأشياء. كل ذلك من خلال السرد الذي تمثله اللغة التداوليه الجذلة بديلاً من اللغة المتعالية، ويوظف الشاعر في إيداعه الصورة المشهدية القائمة على المجسات السمعية والبصرية والتذوقية واللمسة. فالصورة الشعرية عند الشاعر تبعد عن الإبهام والغموض وقائمة على المفارقات والسخرية والسرد، والبوح والنقاط ما خلف الأشياء وترد المقاطع مثقلة وثرية بالصورة البصرية، وبالجمال الأنثوي.
قمرية الوجه المُطرَّز حُسنَها
إن تَبْدُ ليلاً فالنجوم سترحلُ
والسّحرُ يَسكُنُ في الرموش كلؤلؤٍ
وجدائلٌ.. ليلٌ طويلٌ أَليلُ
يا خالقاً جيدَ الحبيبةِ روضةً
في نَحرها نبعٌ ومنه الجدولُ
ويتعامل الشاعر مع المشهد أو اللقطه بعين فاحصة، في صنع مشهده البصري، مما يجعل المتلقي يرى الحياة على نحو مختلف. والصور تبدو وصفية مزدوجة، متبادل بين دلالات القمر ودلالات وجه الأنثى الموصوفة، ومن سمات الصورة الشعرية عند الشاعر الرؤية الكليه للوجود والموصوف، وقد تولدت عنها مجموعة من الإيقاعية الدلالية التي أفضت إليها، واقتربت من الشعرية الصوفية الدلالية لا اللفظية فالشاعر متصوف بروح نصه لا بشكل النص .
ومن خلال الرؤية الذاتية للكون.
فوجه الكون يحفظه كتابٌ
وسِرُّ الحرف في فمه دفين
كأن النُّونُ بين الموج أضحى
كعذب الماء رقراقاً يبينُ
جمال الكُونِ مكنون بحرف
ويبدي سحره كاف ونون
فالصورة السردية ظاهرة أسلوبية عند الشاعر، بالإضافة إلى الصورة البلاغية، وقدّم لنا بعض نصوصه بأسلوب القصة الشعرية، حيث كان الشاعر معنيّاً بالحدث أكثر من الاهتمام بالمكان أو الزمان، كما هو الحال في هذا المقطع.
(مَاه َمَّه طفلٌ تشرّد / ثاوياً تحت المطرْ / نجم السماءِ لحافُه /
وفراشُهُ / بَرْدُ الحجرَ /
وتقوم وظيفة الصورة في الشعر على تصوير تجربة الشاعر أَوّلاً، وإيصالها إلى المتلقي ثانياً. ومن خلال الصور تتعرف على عناصر التجربة، الأفكار والعواطف. وقوة الصورة تكمن في إيحائها، وخلق الواقع من جديد، وتوفير المتعة للمتلقي.
وفي ديوان (طرائد النُّور) نجد حضور التناص ضمن كل قَصيدة وفي بعض عناوين القصائد، من خلال توظيف الأسلوب القرآني، باستخدام مفردات قرآنية كما في العناوين التالية: (الروح تجري لمستقرها، نصف ونون، برزخ بين قصيدتين، طرائد النُّور، وابل الرباب، عُمي القلوب).
ويتناص الشاعر مع الخطاب القرآني لإيجاد نوع من الانسجام مع الخطاب الشعري، فالخطاب الشعري يخص الإنسان، أما الخطاب القرآني موجه إلى النبي موسى في هذا التناص:
أَرْمِي عصاي أُخالُ موسى
فعَصَا البيانِ رؤى وجرسُ
وفي: (لا تُخطئُ الأقدارُ، كُنْ فيكون)
(لِنَكتُب فوقَ وجه الماءِ (إقْرَأ)
هُزّي بجذَعِكِ في سَنا عينيّا
و اسَّاقطِيْ قطْراً على خدَيا
فالخطاب الشعري يخص الأنثى أما الخطاب القرآني موجة إلى مريم العذراء ويقوم الشاعر باستحضار الشخصيات التاريخية، كشخصية عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب، وحوادث تاريخية وأماكن تاريخية في توظيفه للتناص.
عمرٌ تمزقَّ ضِلعُهُ من غَادِرِ
وَهُنَا يُمَزِقُ غَدرَهُمْ ضِلعَيَّا
عثمانُ في صومٍ يُوَدّعُ ظامِئاً
نجم تُهاوى من علٍ عُلويَّا
قابيلُ قد سفكَ الدِّماءَ مُعَاوداً
وقميص يوسُفَ أرجعوه نَديّا
فهم الخوارجُ ضَلَّ رهقُ سُيوفِهم
بدم الورى خير العبادِ مضيا
وتقيم الكلمة، في بعض النصوص، حواراً وتقاطعاً مع نصوص أخرى، والشاعر العتيق يوظف التناص بتنوع الاقتباس أو التلميح من الأسطورة ومن شعر كبار الشعراء كالمتنبي.
فَعِشْ في هذه الدُّنيا نبيلاً
فما أَحْرَاك أن تحيا نبيلا
تعالي… / مثل عَنْقَاءٍ
وطيري في / سَنَا شعري
امتلك شعر العتيق الرؤيا وكان للمكونات الثقافية والذاتية والاجتماعية دوراً مهماً في تكوين هذه الرؤيا من خلال تقنيات متعددة كما مر معنا من تصوير، وترميز وتناص واتسمت الرؤيا بالرؤيا المشرقة للوطن في ماضيه والرؤيا القلقه والسوداويه للوطن في الحاضر، ولكنه محكوم بالأمل والتفاؤل بنهوض الوطن وعبور هذه اللحظة المأزومة قصائد (طرائد النور) جزلة الألفاظ، قوية المبنى، ومحكمة المعنى. تظهر فيها قدرة الشاعر على تطويع لغته ومفرداته: من خلال تشكيلات بلاغية من تشبيهات وكنايات ومحسنات بديعية.
أنها مجموعة شعرية أضافت للمكتبة العربية منهلا نورانيا جديدا تُستحقُّ أن تقرأ بحقْ