السبت , نوفمبر 1 2025
الرئيسية / جامعيون ومواهب / ألسنةٌ كالسُّيوف.. ووجوهٌ بأقنعة

ألسنةٌ كالسُّيوف.. ووجوهٌ بأقنعة

بقلم: الأستاذة فالنتينا إبراهيم

في عالمٍ يتكلَّمُ كثيرًا ويُنصِتُ قليلًا، أصبحت الكلمةُ سلاحًا حادًّا، يَجرَحُ الأرواحَ ويُهدِمُ العلاقات، حتى قبل أن يُدرك المتحدِّث ما اقترفَ لسانُه. الثرثرة، النميمة، والازدواجية في الوجوه، ليست مجرّد صفاتٍ سيّئة، بل هي آفاتٌ اجتماعية تُهدّد كيان المجتمع من الداخل.

 

الثرثارُ لا يبحثُ عن معنى، بل عن صوتٍ يسمعه، حتى لو كان خاليًا من الحكمة. تراه يملأ الفراغ بالكلام، ويُشارك تفاصيل لا تعنيه، ويقذف الآراء جزافًا بلا مسؤولية. والمصيبة تكبر حين تتحوّل ثرثرته إلى مادةٍ للنميمة.

 

النميمةُ خيانةٌ غير معلَنة، تُرتَكَب باسم الفضول أو المزاح أو “نقل الكلام”. لكنها في حقيقتِها نارٌ خفيّة، تُحرِقُ الثقة، وتُفرِّقُ القلوب، وتُشيعُ الفساد بين الناس. وهي سلوكٌ مرفوضٌ في كل الشرائع، إذ يقول الكتاب المقدّس:

“لا تسعَ في الوِشاية بين شعبك، ولا تقفْ على دمِ قريبك” (سفر اللاويين 19:16).

فالواشي يقفُ على حدودِ الجريمة، ولو بكلمة.

 

أما ذو الوجهَين، فضررُه مضاعَف. يُتقنُ التمثيلَ، يتزيَّنُ بوجهٍ أمامك، ويُخفي وجهًا آخر خلفك. تراه يُجاملك علنًا، ويطعنك سرًّا، ينقلُ الكلام ويُحرِّفُه، حتى يرضي جميعَ الأطراف، دون أن يكون صادقًا مع أيٍّ منهم. وقد جاء في سفر يشوع بن سيراخ:

“اللسانُ المزدوج يُهلكُ النفس” (يشوع بن سيراخ 28:18).

 

الوجوهُ المتعدّدة لا تدوم، وإن خدعت البعض مؤقّتًا، فإنّها تُكشَف عاجلًا أو آجلًا. والصادقُ، ولو أخطأ، يبقى أكرمَ من مَن يتقلّب كالحرباء.

 

في زمنٍ ضاعت فيه الحدود بين الصراحة والوقاحة، وبين المزاح والغيبة، لا بدّ أن نسترجع هيبةَ الكلمة، وأن نربّي ضمائرنا على الصمتِ الحكيم، لا على النفاقِ المزيَّن. فالألسنةُ قد تَقتل، والقلوبَ قد لا تُشفى من جرح الكلمة.

 

فهل نختار أن نكون نزهاء اللسان، صادقين في الوجوه، أمناء في الغياب؟

أم سنبقى نُطعِم مجالسَنا بالسمّ المُغلَّف، ونحملُ ألسنةً كالسيوف، ووجوهًا بأقنعة؟!