- بقلم طالبة الماستر فاطمة خالد الدحويش
غُمَّيضة تحت التّراب
ثمّة شيءٌ غریبٌ للغایة في ھذه البلاد الطّاھرة یقتم أرواحنا، إن لم یـنجح في اختلاسھا، مُنذ ما یُقارب خمسٍ وسبعین سنة، ونحن على ھذه القافیة لكننّا نحن الشّعراء ونحن من سنكتبُ التّاریخ ولو بدمائنا أو دماء أطفالنا حتمًا…
“قد نجا من مات و مات من نجا”
تلك كانت الحروف الّتي لطالما نجحتُ في لمّھا بعدما فشلتُ في كنس غبار روحي.
ھي من نعتْ أطفالي، ولستُ أنا… أنا لن أنعیھم، فـقد نعیتُ نفسي فـقط عـندما ماتتْ وعاشتْ داخلھا تلك المشاھد.
أيّ من تلك المشاھـد ستفسخ العقد مع ذاكرتي؟ أو أنّھا لن تفسخ؟ و ھذا ما أعتقده…
على عجل وتحت قـذائف المطر وزخّات الصّواریخ، وكأنّه جـنونٌ ھستیريّ من الأعلى والأسفل، نركض ونركض ونركض…
لم یعُد قـلبي على شـمالي أبـدًا، إنقسم إلى الجھـتین، یـدّ یـوسـف أعتصرُها یمیناً، ویدّ سُعاد تَعصترُني شمالًا…
أنا وأطفالي نركض، بعدما اعتقدنا بأنّنا إعـتدنا سماع تلك السّیمفونیّة المُخترقة، فبلادنا ما كانت ولن تكون سوى لحنًا رحیقًا ھجّنه الوغد الإسرائیليّ…
یوسُف وسُعاد، كلّ منهما یحمل قلبه على صورته الأخیرة مع والدھم الشّھید المُجاھد، وتلك كانتْ وحدھا من رافقتنا في رحلتنا إلى مُثلّث برمودا.
كُنّا نركض إلى اللّامكان، حیث عویل الكائنات یشـلّ الحواس، القذائف تُعرقل الطّریق؛ الطّريق نحو المجھول، وسُعاد تشدّ بـیدي تـطلبُ منّي التّوقّف قائلةً: “ماما دعینا نتوقّف، لا تظنّي أنّني خائفة أو مُتعبة، لستُ كذلك لكنّي أشعر بالصّقیع”. وتلك الكلمات أصقعتْ حركتي…
– قُلتُ لھا: حسنًا، دعینا نتوقّف قلیلًا، وسأخبّئكِ بین أضلعي، كما كان یفعل بابا وتنامین بین موقدة فؤاده.
– ردّت قائلةً: إلى أین نحن ذاھبون؟ إلى أبي؟!
لكنّ يُوسُف الّذي لم یبلغ السّابعة من عمره بعد، قاطع أخته الصّغیرة قائلًا: لا تذكري اسم أبي دون رحمه ﷲ، و لن نذھب إليه حتّى نصبح طيورًا كما كانت تخبرنا ماما.
ثمّ أردف قائلًا: إرتمي في أحضاني یا “سُعادتي”- كما كان یُنادیھا بسّام – أو أنّني أنا من سأرتمي بأحضانكما، لكن لا تخافي یا أختاه ولا تتعبي… فإن وصلنا سنعیش مع ماما، و إن لم نصل سنعیش مع بابا.
عُقِدَ لساني وسط حـدیث أبطال بوجوه أطفال، تسمّرتُ في مكاني عـند سماع الجُملة الأخیرة، لكنّ دموعي لم تتسمّر.
كیف لم أفھم – وأنا الثّلاثینیّة – خوف سُعاد وتعبھا، وصدّقـتُ رجفتھا، ویُوسُف فعل؟!
لن یفھم أحادیث الأطفال إلّا أطفالٌ مثلھم، فأنا عجوزٌ فـقدَتْ نفسھا قـبل زوجها في الحرب السّابقة…
وبعدھا سُعاد ھي مـن طلبت منّا مواصلة السّیر أو الرّكض بالأحرى، لكن ھـذه المرّة كانا سعیدین للغایة، تفاجأتُ وسمعتُ قھقھاتھما فـقط، وصُممتُ عن تلك الصّرخات، صرخات على ردم بیوت ملیئة بالذّكریات، صرخات على أرواح فارقت الحیاة، صرخات على حبّ كُتِب في الرّوایات، وصرخات تطلب الـنّجاة، لكنّ الصّرخة الأخیرة ھي الّتي أعادتْ لي حاسّة السّمع، وكانت صرخة الأمّھات…
تلك الأمّ الّتي تحمل أشلاء أطـفالھا بأكـیاس وتقول: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، حمدًا وشكًرا لكَ یا ﷲ، نجا أطفالي إلى جِنانكَ”، وتسجد…
وھنا یوسُف وسُعاد حاولا تھدئتي قائلین: “لِـمَ تبكین یا ماما؟ ھل لأنّ أطفالها سابقونا إلى أبي؟ أتشتاقین له؟ ونحن أیضًا، ھل سنذھب سویًّا إليه؟ أم أنّنا سنتسابق كأطفالھا؟”
وأكملا أسئلتھما بتخیّلات بریئة ومُوجعة معًا.
یـتخیّلان بیت أبیھما: جنّة الفردوس، ھـناك سـنحتضن بابا، “أنا قبلكِ يا سُعادتي”، “لا أنا من كانت تفوز دائمًا يا يُوسُفي- كما كان يناديه بسّام-“، هناك سنشرب من ماء الكوثر قدر ما نشاء، و نشعل الضّوء باللّيل والنّهار، ولن نسمع صوت القذائف، ولن نسمع صرخات باكية، بل سنسمع الضّحكات والضّحكات فقط، وأجملھا ضحكة بابا بسّام.
هذا المطر الّذي یجنّ علينا سنرقص تحته مع أبي كما كنّا نفعل. “لكن تذكّري یا سُعادتي ما أوصانا به بابا.”
سُعاد: “لـم أنسَ قسمًا ولن أنسى تبریح إسرائیل حتّى الموت الإنتقام لبابا وصدیقاتي.”
كانت تلك أحلامهما الصّغیرة، حیاة طبیعیّة لأطفالٍ لا ذنب لھم، قضتْ عليها إسرائیل الملعونة.
نجحا في تهدئتي سويًّا للمرّة الأخیرة، أكلمنا طريقنا نرتّل ما حفظناه من الأجزاء الأخیرة من القرآن “قد سمع” و”تبارك” و”عمّ”، لتھدأ أنفسنا.
و لمّا حدّدنا وجهتنا إلى إحدى مدارس الإیواء، وعـند الآیة التّاسعة والعشرین من سورة القیامة ﴿وَالْتفَّتِ السَّاقُ باِلسَّاقِ﴾، كان حقًّا الفراق…
شارع بُرج فلسطين في حيّ الرّمال، كان آخر مكان وطأتْ إليه أقدامنا السّتة وصورة زوجي الّتي لا تغیب عنّا.
شعرتُ باحتدامٍ من تحتي، ولم أسمع دوي الإنفجارات في تلك اللّحظة، كلّ ما سمعته ھو صوت المارّة الفارّين من الموت إلى الموت الآخر، وصوت جدار البُرج تتكوّم فوقنا، ناجيتُ ﷲ العليّ وأنا أفتقر إلى الأوكسجین أن يُنجّي يُوسُف سُعاد، ھما كلّ ما تبقى لي من بسّام.
- سمعتُ صوت المُسعفین يسارعون إلى المكان، إلى الركام، يحاولون إنقاذ أرواح إن نجتْ ماتتْ، وإن ماتتْ نجتْ.
سمعتُ صوت قھقھات الإزدحام من غزّة إلى الجنّة لمُتوافدین زُمرًا، لكنّني لم أقوَ على تمییز أحد!
ولمّا مدّ المُسعف یده لي بعد انقضاء ساعتین – كما یدّعون -، رأيتُ في وجهه تلك الامرأة حاملة الأكیاس، لم أعرف لِمَ؟، لكننّي صرختُ: أین یوسُف وسُعاد؟ أين صغيراي؟
خجلتُ أن أسـأل عـنھما أحدًا وسـط الـمُصابین عـن یمیني والأشلاء عن شمالي. نبشّتُ بنفسي عنهما أصرخ وأنوح وأتلاشى وأنزف: یـوسُفي! سُعادتي!
وھكذا لم أعرف إن كان لساعات كما یدّعون أو أنّه لسنین كما أعتقد أنا…
لم یُجیبوني، غضبتُ قائلةً: لم نلعب الغُمَّیضة الیوم، أُخرجا نلعب في الغدّ!
لكنھّما لم یخرجا، وعندما قلتُ الخارج الأوّل ھو الفائز، خسرا اثناھما…
“لا لا، فـقد فازا، نعم! فازا بالخروج من كلّ ركام الدّنیا ولیس فـقط ركام القصف الغاشم” خاطرة ٌ مرّت في بالي لا أعرف صحّتھا، أو من أين أتتْ…
فزتھما أنا لكنّني خسرتُ نفسـي… ما زال الأمل یُسـیّرني، نبّشت عنھما بین المُصابین، لكنيّ لم أجدھما أیضًا، أین اختبأ ھذان الشّقیّان؟
واحد، إثنان…عشرة، انتھتْ اللّعبة أنتما الفائزان، هيّا أُخرجا!.
كلّ من حولي یحدّق بي كأننّي مُختلّةً عقلیًّا فرّت من المَصحّة وھم السّالمون.
حتّى أتاني شیخٌ كبیرٌ شدید البیاض یُدعى “العمّ قدري” سألني: “مـا خطبكِ يا ابنتي؟ ضمّدي یدكِ إنھّا تنزف!.”
قلتُ له: “كنتُ ألعب الغُمَّيضة مع یوسُف وسُعاد، وأنا اختبأت تحت الرّكام، وھم: “لا أعرف”!!
– العمّ قدري: “إبحثي عنهما یا ابنتي، علّهما مُختبئان بین المُصابين، أو أنّهما بین الأشلاء”.
أطعتُ العمّ و أخذتُ أنبشّ عـن يميني شمالي، حتّى وصلتُ بـین الأشـلاء، ورأتيتُ خاتم سُعاد مُرصّعًا بيدها، تمسكُ بھا یدًا أخرى. وعندما حاولتُ إعلان فوزها، رفعتُ یدھا، لكنّني لم أرفـع شيئًا غـیرھا. صرختُ بكلّ ما أملك، ھذا وإن كنتُ لا أزال أملك…!
یا ﷲ! یا ربّ! رأيتُ تلك الامرأة بذاكرتي وردّدت كلماتھا: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، حمدًا وشُكرًا لكَ یا ﷲ، نجا أطفالي إلى جِنانكَ!”
لم أعرف لِمَ قلتُ أطفالي، وكانت سُعاد وحدھا لكنّي قلتھا. سألتُ بعدھا عن كیس لأصبح “حاملة الأكیاس” أنا. وضعتُ داخله یدھا اليدّ الّتي تمسكھا دون أن أعرف صاحبها، ولممتُ بعضًا من اللّحوم المُقطّعة، علّها تكون لابنتي. تمالكتُ نفسي لأُخبر یوسف بفوزه وبیدي سُعاد والیدّ الّتي تمسكھا بالكيس، لكنّي لم أجِده. حلّ الظّلام في السّماء بعدما سبقھا فؤادي، فأخبرني المُسعف بأنّهم تمكّنوا من نقل بعض المُصابین إلى المشفى، اذھبي و ابحثي عنه یا أختاه.
تمتمتُ في نفسي: “ذكيّ كأبيهِ كالعادة، یختبئ في الأماكن الغامضة”.
ناديتهُ بأعلى صوتي في المشفى: “یا یوسُفي! أخرج أنت الفائز”.
والجميع یحدّق بي من جدید، لم یكُن یختبئ بین المُصابين أو أسرّتهم. فركضتُ إلى جوار الطّبيب أصرخ: “أخرج، أنتَ الفائز.”
أخذتْ دمعاه تنساب من مُقلتيه المُتحجرتين، وكأنّه فھم اللّعبة، فقال: “من ھو؟” قلتُ: “یوسف، سبع سنین، شعره كیرلي، وأبیضاني وحلو”.
انتفضَ من داخله وأومأ لزميله أن لا یُخبرني، لكنّني رأيتهُ فأخذت أصفعُ نفسـي، وأُنبّش عنه، قائلةً ً: “یختبئ مُنذ أكثر من اثنتي عشر ساعة، وأنتما تساعدانهِ، إنّه طفلي أنا، أخبراني مخبأه”.
وبعد غياثي وجنوني، أخذني زميله إلى غرفة عُلِّق على بابھا “غرفة الأموات”، لم أكترث أبدًا، فـیُوسُفي یختبئ تحت السّرير كعادتهِ. لكن عندما رفع الغطاء الأبیض عن ذاك الشّعر المُجعّد “الكیرلي”، رأیتُ طفلي یختبئ تحته، فمسكتُ یده لأُعلن فوزه، لكنّي لم أجد یده. استحضرتُ تلك الامرأة للمرّة الثّانية مُردّدة كلماتها: “إنّا لله وإنّا إليه راجعون، حمدًا وشُكرًا لكَ یا ﷲ، نجا أطفالي إلى جِنانكَ!”
ھذه المرّة سبقتني كلمتي قبل الحقیقة، فكانا طفليّ، يُوسُف دون يدّ وكمشة لحمٍ من سُعاد ویدان مُتعانقتان.
تمالكتُ نفسي للمرّة الثّانية في سبیل تحقیق أحلامهما، فاكترثتُ لهما، نعم إنّهما الملاكان المُتسابقان إلى عروج السّماء، نحو أبيهما دوني. من سبق الآخر یا تُرى؟ من فاز؟ لم أعرف. لكنّ كلّ ما أعرفه أنّني خسرت.
عُدتُ إلى الدّيار أجرُّ ذيولي مع أربع أیادٍ فقط، لنُعيد تلك اللّعبة في منزلنا، فخبّأتُ أطفالي أنا ھذه المرّة بیديّ تحت التّراب دون العدّ للعشرة… وفُزتھما من جدید…
مجلة إشكاليات فكرية مجلة ثقافية معرفية