طاهر مهدي الهاشمي
إعلامي وأديب عراقيّ
جرمانا 30 /11/ 2016
فجر المساء مجموعة شعرية جديدة للشاعر محمد سعيد العتيق
خرجت من مألوف الدلالة إلى طريف الثمالة .
( شذا الروح شعري ) تتصادى أحرف تلك العبارة الموسومة على الصفحة الأولى لهذه المجموعة , في أجواء المخيّلة , تبثّ طيبها قطرات عابرة للعطور , تحمل إلينا ( فجر المساء )أضاميم أشواق من ندى الأعماق , مطلقة غزل القوافي ومهرجان الأنغام رنيماً يتسامى ويتهامس , وجداً على وجد .
إنها فيما تنجز من لوحات تتناول الداجي من النّفس وقد أوشكت على فكّ أحجية في ذلك الوجه الرّماديّ المشرف على الخروج من إطار لوحة تأملتها بصيرة الشاعر :
_ وجهٌ رماديّ الأسى في لوحةٍ عكسَ ارتباك اللّون في الأوداجِ
إنّما تدلف من كوّة وجدها على متن (أغنية الفراغ ) إلى عوالم نورانيّة
اكتنزتها (مغارة الحلّاج) .
_وركبت أغنية الفراغ لعلّني أحظى بباب مغارة الحلّاجِ .
(فجر المساء ) عتبة نصّية واعدة لقصائد مجنّحة , تحمل الوجدان معها إلى عوالم غير عادية , ومسالك غير مألوفة , من خلال شكل تراثيّ يضّمها بين ضلعيه , صوراً تأتلف وتختلف , في جدلية المغاير والثابت لتبثّ شاراتها رموزاً تلتقطها الذائقة المرهفة بحساسية شعرية عالية , مولّدة تلك الشّحنات اللامعة لانفعالات الوجدان .
لأنيّ بامتداد الكون غيبُ تلوّن معطفي واللون شيبُ
تمطّى هاجسي فانداح ورداً يحاصرني ظلامٌ ثمّ يخبو
إنّه في مأزقه بين الظلام والنّور , واليأس والأمل , والرّيب واليقين , يراوح بدءاً على عود .. فهو مدرك تماماً أنّه لو توقّف سيهمد , وإن قاوم تلك النّار القدسيّة سيخمد .
_ أزلزل نبض جوفاء الليالي فيرهقني يقين ثمّ ريبُ
وهو في سيرورة هجسه الإبداعيّ يرقى إلى تصوراته الكامنة في لاشعور جمعيّ, تعتّق فيه موروث باذخ من منجزات أسلافه الإبداعيّة , فثملت ذائقته بها , وتلوّنت مخيّلته بصورها وتراكيبها , فإذا بها تخرج من بوتقة اشواقه للجميل والمغاير , بحلل قشيبة مدهشة , ولعلّه في تركيز زاوية عدسة مخيلته من خلال قصيدته : رسول الثّرى , يلتقط صوراً باهرة الألوان , ثرّية الإيحاء :
_في الفجر يحمل نبضه ويسيل ماء يفنى بذاك الظّل من بعد استواء
كالنّهر ممتدّاً إلى أفق المدى في ضفّتيه سنابلٌ وثرى اشتهاء
ونكاد نصرخ استحساناً وطرباً , ونطير معه في أجوائه القصوى حين يقول :
_يخشى على شتلاته من ظلّه فيطير مثل الضّوء يحمله الرّجاء
محمد سعيد العتيق نبيذ معتّق في خابية النّشوة …يسري في المخيلة ويصبّ في الوجدان ويلهج به القلب ويعتسل اللسان , وتتمرأى بلوحاته الشعرية وجوه الحسان .. ولا غرو ولا شطط إن راودتني في منجزه الإبداعيّ انطباعات هتكت أستار مراياه المخبوءة في عمق الذّات , حيث تتوالى تلك المرايا الشّعريّة في ترجيعٍ انعكاسيٍّ لأعماقه المتلظّية بأشواق كونية لكلّ ما هو جميل ونقيّ , وتلك لعمري غاية الشّعر ومرتقاه .
_ يا بيت قافيتي يا مسكني ودمي ما زلت أولد من كفّيك ما زلتُ
نور من الله في تنزيل محبرتي دمي الوميض وفي مشكاتها زيتُ
ومثلما يحلّ القلق الوجوديّ في النّفس المترعة بريبها تنتابه تلك الهنيهات العصيبة , علّه يخرج من درنها فلا يزري به الموت :
_فيا مسامات روحي أخرجي درني علّي أعيش فلا يزري بي الموتُ
الموت جدران بيت لا عماد له وإنّ سقفاً بلا جدرانه ميْتُ
داعبت مرآتيَ السّوداء معترفاً باحت بقبحٍ فما ابيضّتْ وما بحتُ
ينطلق الشاعر المثقل بأشجانه من قارورة خبئه متبخّراً بين كروم وجده , ليعقد سحبه مجدّداً على هامات معانيه التي لبست لبوساّ آخراً , مقطّراً نداه قطرة قطرة :
_ ما زلتَ تسكن بين أحداق المنى والسّهد خمرٌ في دم السّهرانِ
والفجر ينأى في مسيرة أخرفٍ ويبيع وهماً للنّدى السّكرانِ
محمد سعيد العتيق الشاعر الذي سيظلّ يلهج على مرّ ثواني العمر نبضاً معافىً سليماً , متجدّداً في صيرورته , يتحفنا بالطريف والمغاير , رغم ما يتلبّد من شعور , وما ينشز من صوت , يبقى وليد النّور وحبيبه , وعدو الظلام وبغيضه :
_ أمطار هذا الليل رجع طفولتي وبروق ذاك الأمس ومض البشرِ
والبوح نبض الوجد لمّا تزدهي هذي الحياة بداليات العطر
الذّات ضوءٌ والظلام كأنفسٍ رحّلْ بياضَك عن سواد البدرِ
لن أبحر أعمق في أوقيانوس العتيق فيستغرقني خبؤه , وتستدرجني حورياته ونفائسه إلى الغوص أعمق في عوالمه اللامرئية , خلال هذه الإراقة الضوئية الخاطفة لمرآة سطحه اللامعة , لعلّني أستوفيه حقّه في إبحار مستفيض لمدّه العميم .
كلمة أخيرة :
فجر المساء كروم مثقلة بمياه البدعة , تتّكئ على أرائك ولعها بما ينشي ويثمل , لتنثال حبيباتها البرقية , شلال فتون وغوايات , تستدرجنا من فجر إلى فجر, وقد أرخى مساء مخاتل سدول أحابيله على منكبيّ الزمان .
ليقنص فجراً آخر , وقد أطلق عصافير الكلمات من أقفاصها , فغرّدت متفرّدة خارج السّرب , مشكّلةً منظومتها الإبداعية , بحبر القلب وحساسية الوجدان , وعودة الروح من متاهات الغياب , وقد سكرت من جولانها اللا محدود , معلّقة مراياها الصورية , على جدران الهنا والآن , لتعكس ما يوازي منتجها الخلّاق , من رؤى صوفيّة وانسكابات وجدانية في قوالب محكمة لتشكّل ملحمة وجودها بما يدفعها على الدّوام إلى تجاوز ذاتها لتبدأ من حيث انتهت مطاردة بوارق الإلهام , متفرّدة كلّ لحظة بجديد .
لست بصدد تقديم شكليّ لتلك المجموعة الجديرة بالدرس والتمحيص , من خلال افتراع عوالمها الجوانيّة , والتقاط شاراتها الحدسيّة , بل هي انطباعات مستوحاة من ثراء ينابيعها , واكتناز جواهرها , وإبراقات رؤاها , المولّدة للإيحاءات والمفعّلة للأحاسيس والمشاعر , وكأنّي بها تطلقني من مضائق العاديّ والسّطحيّ , إلى آفاق تنأى وتتّسع باستمرار .
لتجعلني في سباق الاستدراكات , أحاول اللحاق بشاراتها البرقيّة ومدلولاتها ورموزها من خلال ذلك الفجر الكونيّ الذي يرتبط عضوياً بمسائه السحرّيّ , فتتوالى الإشراقات , كلّ مساء بفجر جديد .