الجمعة , مايو 17 2024
الرئيسية / قضايا مجتمع ومناسبات / بين أولاد البيوت وأولاد السياسيين- علي عزت الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

بين أولاد البيوت وأولاد السياسيين- علي عزت الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

بين أولاد البيوت وأولاد السياسيين-

علي عزت الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات

لستُ ممّن يتبنّون مذهباً فكريّاً معيّناً بالمعنى الإجتماعيّ الإقتصاديّ فيما يخصّ الواقع اللّبناني. فكلّ المذاهب المطروحة تاريخيّاً ممّا يسمّى يساراً أو يميناً أو شيوعيةً أو إشتراكيّةً أو رأسماليّةً هي بنت مجتمعاتها التي نشأت فيها. فالمجتمعات خاضت تجاربها وتطوّرت علاقاتها فيما بينها عبر التاريخ من داخلها ومن خارجها، وتباعاً أفرزت كلّ منها مذهبها الفكريّ الخاص المنسجم مع تجاربها، بما يتناسب مع ظروفها وتركيباتها السّكانيّة والإجتماعيّة و سلّمها القيميّ، وبما يتناسب أيضاً مع مواردها البشريّة والطبيعيّة المتاحة، ونظّرت، بناءً عليها، لطريقة حكمٍ غايتها النّهائية رفاهيّة الإنسان، والتي هي غاية موحّدة لكل المذاهب على إختلاف طرائقها.

أمّا في لبنان، فنحن لم ننتج حتّى اليوم مذهبنا الفكريّ الذي يتناسب مع واقعنا بطريقةٍ عضويّةٍ، ولذلك أسبابه الموضوعيّة. فلبنان، على نقيض ما تقول الأسطورة، ليس ضاربةً جذوره في التّاريخ، لبنان الذي نعرفه اليوم عمره فقط مئة سنة، وقد عاش في هذه المئة سنة أغلبَ تجاربه محكوماً من الخارج، إمّا مباشرةً أو غير مباشرةً، ممّا حال دون أن نراكم كلبنانيين تجربتنا الإجتماعيّةً العضويّةً، التي سيتولّد عنها توالياً مذهبَ حكمٍ لبنانيٍّ يحاكي هذه التّجربة. فجلّ ما شهدناه من أفكارٍ تبنّتها أحزابٌ أو تيّاراتٌ من مختلف المذاهب الفكريّة الموجودة على السّاحة العالميّة، كان يتمّ عبر سياسة “الباراشوت”، أي الإسقاطات الغير مبنيّة على أسس علميّة أو موضوعيّة. وبالتّالي، فشل “اليسار” اللبناني في نقل التّجربة التي حاول إسقاطها، وكذلك فشل “اليمين” في إسقاطاته، وكذلك فشل الإسلاميّون والكنسيّون والعلمانيّون، وكذلك سيفشل كل من يحاول إسقاط أفكار معلّبة مستوردة من تجارب مجتمعاتٍ أخرى على مجتمعنا، حسنةً كانت أم سيّئةً، ما لم يطوّعها مع تجربة هذا المجتمع الحديث بالمعنى الزمني.

بناءً على ما تقدّم، لا موقف مبدئيّ لديّ ضدّ الأغنياء اللّبنانيّين، مثلاً على غرار المواقف المبدئيّة السلبيّة للماركسيين، الذين يصمون أي إنسان غنيّ أنّه برجوازيّ متسلّق يضطهد البروليتاريا. بتاتاً، لا أقارب الموضوع بهذه العقيدة، فليس بالضّرورة أن يكون وجود طبقة غنيّة في لبنان يعني حتميّة وجود صراع طبقيّ، فالغنى، مبدئيّاً، قد يكون ناتجاً عن عملٍ مستحقٍ لا يتنافى قطّ مع القيم الإنسانيّة. لكن! لكن! ممّا لا شكّ فيه، أنّ مظاهر الغنى لدى الطبقة السياسيّة، أو ما أسميها مجازاً “الكمخة السياسيّة”، الحاكمة منذ إعلان لبنان الكبير حتى يومنا هذا، هي مدعاة لكثيرٍ من التساؤلات والإنتقادات وحتّى السّخط والمباهلة، ولو كنّا في بلدٍ طبيعيٍّ، فهي حتماً مدعاةٌ للمساءلة والمحاسبة.

أولاً، من هم هؤلاء السّياسيون؟ بإيجازٍ مفيدٍ، تتشارك غالبيّة السيساسيّين الذين تعاقبوا على الحكم في لبنان منذ ١٩٢٠ بظاهرةٍ بارزةٍ، وهي أنّهم يتحوّلون تلقائيّاً إلى أغنياء إثر تولّيهم الحكم، بغض النّظر لأيّ طبقة إجتماعيّة إنتموا سابقاً ونشؤوا وترعرعوا، وبغض النّظر عن إنتماءاتهم للقبائل الطّائفية المتعدّدة التي يتحصّنون خلفها لإضفاء شرعيّتهم. إنّ هذه الظاهرة في الغنى المتوازي مع تولّي السلطة تنطبق على الكلّ تقريباً، والإستثناءات لا تتجاوز أصابع اليد. وهذه الظّاهرة، بإستدلالاتٍ بسيطةٍ، يمكن تفسيرها بسهولةٍ أنّها ناتجةٌ عن سوء إستعمال السّلطة، والرّكون للفساد والإرتشاء ومراكمة الثروات على حساب المنفعة العامّة. وهنا، يصبح السّخط على الأغنياء من السياسيين مشروعاً، لا بل يصبح حقّاً مكتسباً للبنانيين الذين يرزحون بين مطرقة الفقر والإذلال والإستزلام في وطنهم، وسندان الإضطرار للهجرة والإغتراب هروباً من مآسيهم اليوميّة.

أمّا بالعودة إلى عنوان المقال “بين أولاد البيوت وأولاد السياسيّين”، فهنا يمتلئ قلب المرء قيحاً، ويُشحن صدره غيظاً، ويُجرّع نغب التّهمام أنفاساً. ففي حين يكافح “أولاد البيوت” منذ يفتحون عيونهم على الدّنيا من أجل بلوغ حياةٍ كريمةٍ، يكافحون، حرفيّاً، هي عمليّة كفاحٍ، كفاحٍ مستميتٍ، يتنعّم أولاد السّياسيين بأموالنا، فيأكلون من الطعام أشهاه، ويحتسون من الشّراب ألذّه، ويرتدون من الملابس أفخرها، ويتعلّمون في مدارس وجامعات العالم الأول، ويركبون من السّيّارات والطائرات الخاصّة أفخمها، ويسوحون في أغلى المدائن والأمصار، ويتسكّعون في أبهى الحانات وفي أعرق الأوتيلات.

أعرفهم، أعرفهم عن قربٍ، معرفةً شخصيّةً حسّيّةً، أعرف الإثنين معاً، أعرف من أولاد البيوت من يوفّر القرش ويحرم نفسه النّزهة أو الملابس الجديدة أو حفل الشّواء أو علاقة الحبّ لكي يدفع قسطه أو إيجاره أو يعيل أحبّته، وأعرف من أولاد السياسيين من يرتدي ساعةً في معصمه يضاهي ثمنها تعويض نهاية الخدمة، أو حذاءً يفوق سعره الحدّ الأدنى للأجور أضعاف مضاعفة، أو يتسكّع في أوتيل إيجار غرفته يوازي كلفة عمليّة جراحيّة لمواطنٍ يموت على باب مستشفى، أعرف سفراتهم المترفة وحفلاتهم الصّاخبة على اليخوت وأصناف الأطعمة البحريّة التي يستعرضونها … وأعرف من أولاد البيوت من عاش على سندويشات الزعتر والزيت والطعام البائت، من ذهب من بيته إلى مدرسته أو جامعته أو وظيفته سيراً على الأقدام ليوفّر أجرة المواصلات، من كان غاية آماله بيت بنافذتين وباب يملؤه حبّاً وأطفالاً ولم يستطع لذلك سبيلاً. أولاد البيوت يقرؤون كتبهم على ضوء الشموع ويتفوّقون، وأولاد السياسيين يتصوّرون إستعراضاً مع كتبٍ لا يجيدون قراءتها في طائراتهم الخاصّة. أختم، “إنّي لا أرى الموتَ إلّا سعادةً، والحياةَ مع الظالمين إلّا برَماً.” اللعنة عليكم. والسلام.