الجمعة , مايو 17 2024
الرئيسية / ابحاث ودراسات عليا / في نشأة البلاغة العربية

في نشأة البلاغة العربية

بقلم د أنور الموسى

من كتاب البلاغة العربية والتحليل النفسي

في نشأة البلاغة وتطورها

تملك العربي في العصر الجاهلي ناصية القول… فالأدب الذي تركه يشهد له بعلو المكانة في عالم الفصاحة والبلاغة.. فالكهان مثلا كانوا يلتزمون السجع في أدائهم للتأثير في النفوس: “والأرض والسماء، والعقاب، الصقعاء، واقعة ببقعاء…”

وانصرف كثير من الشعراء إلى تجويد أشعارهم حولا كاملا أحيانا… فشبهت الأشعار ببرود العصب والحلل والمعاطف والديباج والوشي وأشباه ذلك…ووصفت القصائد بالحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات والمذهبات… ولقب الشعراء آنئذ بالمهلل والمرقش والمحبر والمثقب والنابغة والكيس والأفوه… ما يدل على تذوقهم الأدب…

وفي هذا العصر، عرف العرب بالفصاحة والبلاغة وحسن البيان، وقد بلغوا درجة رفيعة من البلاغة والبيان، وصوّر القرآن ذلك في آيات عديدة، ووضح شدة قوتهم في الجدال والحجاج …

ومن أكبر الدلائل على أنهم بلغوا في البلاغة درجة عالية رفيعة، أن معجزة الرسول (ص) وحجته الدالة على نبوته القرآن؛ حيث دعاهم إلى معارضته، وتحداهم بأن يأتوا  بمثل بلاغته الباهرة ، وهي بلا شك دعوة تدل بوضوح على تمكنهم… ورسوخ قدمهم في البلاغة والبيان، وعلى بصرهم بتمييز أقدار المعاني والألفاظ، وتبيين ما يجري فيها من جودة الإفهام وبلاغة التعبير .

وقد وصف الجاحظ العرب بالبلاغة والفصاحة وقدرتهم على القول، فيقول: “والكلام كلامهم وهو سيد عملهم، قد فاض به بيانهم، وجاش به صدورهم”…

وقد حفلت كتب الأدب كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والشعر والشعراء لابن قتيبة والموشح في مآخذ العلماء على الشعراء للمزرباني بنماذج عديدة من النقد الجاهلي الذي كان بدور في أسواقهم المعروفة في الجاهلية كعكاظ، من ذلك أن النابغة كانت كضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها، فيقول فيها كلمته، فتسير في الناس لا يستطيع أحد أن ينقضها. من ذلك قصته المشهورة في تفضل الأعشى على حسان بن ثابت، وتفضيل الخنساء على بنات جنسها، فثار لذلك حسان وقال له: أنا والله أشعر منك ومنها، فقال له النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال حيث أقوله :

 

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى     وأسيافنا يقطرن من نجدة دمـــــــــــــا

ولدنــــــــــــــا بني العنقاء وابني محرّق     فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنمـــــــــــا

فقال له النابغة: إنك لشاعر لو أنك قللت عدد جفانك وسيوفك، وقلت يلمعن في الضحى، ولو قلت يبرقن لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً، وقلت يقطرن من نجدة دما، فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر  لانصباب الدم ، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك ، فقام حسان منكسراً .

 

ومن ذلك أيضاً قصة طرفة بن العبد وهو صبي عندما سمع المتلمس ينشد قوله .

 

وقد أتناسى الهم عند احتضاره              بناج عليه الصيعرية مكدم

 

الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة لا في عنق الجمل، فقال طرفة: استنوق الجمل، فضحك الناس وسارت مثلاً…

ولا يخفى أن هذه الملاحظات النقدية كانت تعتمد على الذوق، فهي نقد ذاتي لا يقوم على التعليل والتفصيل، وبمرور الزمن ذكر العلماء لهذه الأحكام والملاحظات النقدية تعليلات تقوم على أسس بيانية، وتحول هذا النقد إلى نقد بياني ينظر إلى  المعاني والألفاظ على أيدي البلاغيين…

 

وهكذا، كان العرب في الجاهلية يسوقون ملاحظات تعد أصل الملاحظات البيانية والبلاغية… وكانوا يعتنون بتنقيح أشعارهم بأوجه البيان والبديع… تلك الأشعار التي تزخر بدلالات نفسية جمة، لم يلتفت إليها غالبية الدارسين…

  • البلاغة في صدر الإسلام

في هذا العصر، أخذت الملاحظات البلاغية تنمو بفضل ما نهج القرآن والرسول من طرق الفصاحة والبلاغة…

فالقرآن نفسه حجة بلاغية، ووجه من وجوه التحدي… فرغبة علماء العربية في تفهم القرآن، دفعتهم إلى البحث في بلاغته…

وفي أحاديث الرسول عناية بتخير اللفظ… فضلا عن أن الخلفاء الراشدين كانوا يستضيئون في خطابتهم بخطب الرسول… ويروى أن أبا بكر عرض لرجل معه ثوب فقال له: أتبيع الثوب؟ فأجابه: لا، عافاك الله، وتأذى أبو بكر مما يوهمه ظاهر اللفظ، فقال له: لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك الله…

فضلا عن أن فن الخطابة ومظاهره الإيقاعية وأهدافه الجمالية والتأثرية… كلها عوامل أغنت ميادين البلاغة… فظهرت الدعوة إلى الإيجاز والنهي عن التكلف…

  • البلاغة في العصرين الأموي والعباسي

في العصر الأموي، كثرت الملاحظات البيانية… وازدهرت الخطابة، فبرع فيها الحجاج وزياد بن أبيه…

وازدهر الشعر في سوقي المربد بالبصرة والكناسة بالبصرة… ومجالس الخلفاء والولاة…

وكثرت في هذا العصر الملاحظات النقدية… وكانت لذلك بواعث كثيرة؛ منها تحضر العرب واستقرارهم في المدن والأمصار، وازدهار العلوم ورقيها، ما أدى إلى رقي الحياة العقلية… فأخذ المسلمون يتجادلون في جميع شؤونهم السياسية والعقدية… فكان هناك الخوارج والشيعة والزبيريون والأمويون، والمرجئة والقدرية والمعتزلة، فكان طبيعياً أن ينمو النظر في بلاغة الكلام، وأن تكثر الملاحظات البيانية المتصلة بالكلام، ليس في مجال الخطابة والخطباء فحسب ، بل في مجال الشعر والشعراء أيضا… نظرا إلى تعلق الشعراء بالمديح وتنافسهم…

وفي هذا العصر نشطت حركة النقد، سواء في مجال مجالس الخلفاء والولاة، أو في الأندية الأدبية كسوق المربد في البصرة وسوق الكناسة في الكوفة؛ حيث كان الشعراء يجتمعون في هذه الأسواق لينشدوا الناس خير ماصاغوه من الشعر؛ من ذلك ما يقال إن ذا الرمة كان ينشد بسوق الكناسة في الكوفة إحدى قصائده، فلما وصل إلى قوله :

إذا غير النأي المحبين لم يكد      رسيس الهوى من حب مية يبرح

صاح به ابن شبرمة: أراه قد برح، وكأنه لم يعجبه التعبير في قوله: لم يكد، فكف ذو الرمة ناقته بزمامها، وجعل يتأخر بها، ويفكر ثم عاد فأنشد:

النأي إذا غيّر المحبين لم أجد ….

ومن ذلك ما روي عن عبد الملك بن مروان حين مدحه عبد الله بن قيس الرقيات بقصيدة يقول فيها:

 

يأتلق منها التاج فوق مفرقة   على جبين كأنــــــــــــه الذهب

فغضب عبد الملك وقال له: قد قلت في مصعب بن الزبير :

إنما مصعب شهابه من الله     تجلت عن وجهه الظلماء

 

فأعطيته المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم، وأعطيتني من المدح ما لا فخر فيه، وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة.

ومن ذلك ما روي عن ذي الرمة حين أنشد هشام بن عبد الملك قصيدته التي مطلعها :

 

ما بال عينيك منها الماء ينسكب

 

فزجره هشام وقال له: بل عينيك. فهشام عاب على ذي الرمة قوله لعدم مراعاته المقام، وهو ما يعرف لدى البلاغيين ببراعة الاستهلال .

 

وجلي أن الأمثلة السابقة تدل على أن الملاحظات البيانية في العصور القديمة جاهلية وإسلامية لم تغب عن أذهان البلاغيين حين أصّلوا قواعد البلاغة ، وهي بحق تعد الأصول الأولى لقواعدهم .

 

  • البلاغة في العصر العباسي

وفي العصر العباسي، أخذت الملاحظات البلاغية تزدهر ازدهارا كبيرا، وتصطبغ بصبغة علمية، وكان لذلك أسباب عديدة؛ منها ما يعود إلى تطور النثر والشعر مع تطور الحياة العقلية والحضارية، ومنها ما يعود إلى نشوء طائفتين من المعلمين عنيت إحداهما باللغة والشعر؛ وهي طائفة اللغويين والنحاة ، وعنيت الأخرى بالخطابة والمناظرة وإحكام الأدلة وهي طائفة الأدباء .

كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى نمو البحث البلاغي وإزهاره وتطوره، فكثرت الملاحظات البلاغية بدءاً بسيبويه إمام النحاة، وانتهاء بإمام البلاغيين عبد القاهر الجرجاني الذي اكتمل صرح البلاغة على يديه، فوضع أصولها وأرسى قواعدها حتى غدت علماً مستقلاً .

 

وشهد هذا العصر نشأة آراء كثيرة أصيلة ومترجمة، حول البلاغة وعناصرها… فأخذ العلماء يبحثون في أصول بلاغات العرب، وتدوين آرائهم في معنى كلمة بلاغة وفصاحة… وأشهر ما يؤثر في ذلك وصية بشر بن المعتمر من زعماء المعتزلة المتوفى العام 210ه.

وصية بشر بن المعتمر

بشر بن المعتمر من متكلمي المعتزلة، ومؤسس فرع الاعتزال ببغداد… وصحيفته القيمة تعد وثيقة بلاغية… ذكرها الجاحظ في كتابه: “البيان والتبيين”…

حكى الجاحظ قال: مر بشر بإبراهيم بن حبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم الفتيان الخطابة، فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد… فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا، ثم دفع إليهم صحيفته من تحبيره وتنميقه، وفيها يقول: “خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك… وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد… ومن أراغ معنى كريما فليتلمس له لفظا كريما…”

ولدى تأمل تلك الصحيفة يلاحظ أنها تعد دستور البلاغة… ويستخلص منها الآتي:

  • على الكاتب أو الأديب أن يتميز أنسب الأوقات للإنتاج الأدبي…
  • الابتعاد من التوعر المفضي إلى التعقيد…
  • أن يراعي الكاتب المزاوجة أو الكفاءة بين المعاني والألفاظ…
  • المثل الأعلى للكلام البليغ أن يكون اللفظ رشيقا عذبا، وفخما سهلا، والمعنى ظاهرا قريبا…
  • أساس البلاغة أن يكون الكلام مطابقا مقتضى الحال…

ثم ألفت كتب جمة تجمع الآراء والدراسات الموجزة حول البلاغة، كإعجاز القرآن لأبي عبيدة، والفصاحة للدينوري، وصناعة الكلام للجاحظ، وقواعد الشعر لثعلب، وإعجاز القرآن في نظمه وتأليفه للواسطي…وكتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، والبيان والتبيين للجاحظ…

وكان لفئة الكتاب وفئة المتكلمين والفقهاء والمفسرين واللغويين والنحاة والرواة والشعراء كابن المعتز، دور مهم في هذا السياق…

علم المعاني

أول من سمى هذا العلم بهذه التسمية شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني (ت471ه)، في كتابه “دلائل الإعجاز”…وهذا الكتاب في الأصل محاولة لإثبات إعجاز القرآن…

وشرح الجرجاني المراد من هذا العلم بقوله: “إنه ائتلاف الألفاظ، ووضعها في الجملة الموضع الذي يفرضه معناها النحوي”. “واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الموضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخل بشيء منها… ”

علم المعاني إذًا، هو روح النحو وعلته، وتبيان أغراضه وأحواله؛ ففي النحو تقول: زيد منطلق، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق…فكل هذه التراكيب نحويا مكونة من مبتدأ وخبر… في حين أن مدلولاتها المعنوية تختلف كثيرا… وهذا الاختلاف في المعاني من مهام علم المعاني… إنه علم معاني النحو.

وعلم المعاني عند السكاكي هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة…وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره.

وعرفه القزويني بقوله: إنه العلم الذي يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال…

علم البيان

ظلت كلمة البيان تطلق على كل كلام خالد في التراث العربي، حتى مجيء عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري، فوضع أسس البلاغة العربية من خلال كتابيه “أسرار البلاغة” و”دلائل الإعجاز”… ومع ذلك، فإن المباحث المعروفة لعلم البيان، لم تكن هي التي قصدها الجرجاني، وإنما هي عنده الفصاحة والبلاغة والبراعة، علما أن كتابيه اشتملا على عدد من مباحث علم البيان كالتشبيه والتمثيل والمجاز والاستعارة والكناية…

ويعد الزمخشري (538ه) في كتابه “الكشاف” خير من قدم تطبيقا لما اهتدى إليه عبد القاهر من قواعد المعاني والبيان، فضلا عما أضافه من آرائه وذوقهه…

ثم جاء السكاكي بكتابه “مفتاح العلوم”، فبلور الصيغة النهائية لعلوم البلاغة… ثم جاء القزويني في كتابه التلخيص… فشرحه تحت اسم الإيضاح… حيث فصل ما أجمل في كتابه السابق، مع شروحات وإيضاحات استوحاها من كتابات أهل البلاغة السابقين… وقد بقيت مباحث علم البيان كما ثبتها السكاكي والقزويني إلى اليوم، وهي تتضمن: التشبيه والمجاز والكناية[2].

علم البديع

يعد ابن المعتز (298ه) أول واضع لعلم البديع، وأول من حدد معالمه بوضوح وجلاء، وعبد نهجه للسالكين فيه، وإن كانت هناك محاولات سبقت ابن المعتز كمسلم بن الوليد.

ويعد كتاب البديع أول كتاب علمي في البديع، ألفه ابن المعتز سنة 274ه، وجمع فيه أنواع البديع، وقسمها إلى قسمين: الأول يشمل الأنواع الخمسة المسماة بالبديع: الإستعارة والتجنيس والمطابقة ورد الأعجاز على ما تقدمها، والمذهب الكلامي.

أما القسم الثاني المسمى “محاسن الكلام”، فذكر فيه ثلاثة عشر نوعا: الالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج من معنى إلى معنى، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتجاهل العارف، وهزل يراد به الجد، وحسن التضمين والتعريض، والكناية، والمبالغة، وحسن التشبيه، وحسن الابتداءات، وإعنات الشاعر نفسه في القوافي، وتكلفه من ذلك ما ليس له.

وبعد ابن المعتز جاء العديد من علماء البلاغة، واعتمدوا على ما وضعه، ثم أضافوا أنواعا أخرى، ووضعوا تسميات جديدة لأنواع موجودة..

وفي ما سمي بعصر الانحطاط، تكلف بعض الشعراء في استخدام البديع، فنظم بعضهم كالبوصيري (696ه) قصائد في كل بيت منها لون من البديع… وسميت قصيدته بالبردة… مدح فيها الرسول…