الجمعة , مايو 17 2024
الرئيسية / مقالات / تحليل العملية الإبداعية واشكالياتها في الكتابة

تحليل العملية الإبداعية واشكالياتها في الكتابة

بقلم ا.د بومدين جلالي

الجزائر

أسئلة الكتابة الإبداعية …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتابة الإبداعية الراقية نشاط يلامس قمة الذكاء الإنساني عند المنتج والمتلقي على حد سواء. لذا؛ هي تنطلق من عاملين جوهريين لا يغني أحدهما عن الآخر.
أول العاملين هو الملَكَة أو الموهبة أو العبقرية وفق التسميات المختلفة للاستعداد الذاتي الخاص بالقدرة الفطرية على ممارسة الإبداع الأدبي بانمياز وامتياز، وهذا أمر غير وراثي وغير مكتسب لأن الأديب المبدع الحقّ وُلد ليكون هكذا إذا توفر له الحد الأدنى من الظروف المساعدة، وقد طرحت النظريات المفسرة لأصل الإبداع بعض الآراء في هذا المجال لكنها تبقى نسبية محدودة جدا، وهو ما ترك مسألة الإبداع مرتبطة بغيبتها الثابتة عبر التاريخ البشري.
وثاني العاملين هو الصناعة الرفيعة الواعية المتمثلة في التعلم المستمر وممارسة تجارب الحياة بأوسع معانيها المتاحة، وهذه الصناعة تتفرع إلى فرعين متكاملين أحدهما عام والآخر خاص. فالصناعة بمفهومها العام هي التربية والتكوين وممارسة التجارب ومجموع النشاطات التي تجعل من الإنسان إنسانا، كلّ بحسب ظروفه وثقافة انتمائه ومستوى حضارته ومساحة طموحاته الفردية والمجتمعية، ومن تأخّر في هذه الصناعة العامة المرافقة للإنسان – فردا كان أو مجتمعا – يعشْ في التخلف والهامشية وما يجري هذا المجرى وفق درجة تأخّره، وهذه الصناعة يشترك فيها المبدع وغير المبدع، وليست هي التي تنتج عبقريا متفردا حتى لو كان موهوبا وإنما تبقى هي الممر الضروري إلى التميّز في هذا الحقل أو ذاك. والصناعة بمفهومها الخاص والمتخصص في الإبداع الأدبي دون غيره هي ما تقاربه أسئلة الكتابة الإبداعية، وهذه بعضها :
السؤال التمهيدي : من أين ينطلق الكاتب المبدع ؟
ينطلق الكاتب المبدع من صناعة خاصة تتعمق وتتطور تدريجيا مع مساره، وقد تبدأ باكرا في حياته أو تتأخر قليلا أو كثيرا وفق ما يقتضيه الواقع، وتتمثل في فهم تذوقي روحي يخترق قوانين اللغة ليتغلغل في تلافيف مكوناتها الجمالية من خلال اكتشاف تراكم إبداعها التاريخي الأنيق لا من خلال التقعيد فقط وإنما بالوصول بالبصيرة إلى ما وراء التقعيد المقنن للكتابات السابقة وما يمكن نسجه وتشكيله من المستكشف الجديد الذي يضيف من غير أن يكسّر ما سبق أو يحدث معه قطيعة تنكّرية تضرّ بالقديم والجديد في آن معاً، كما تتمثل هذه الصناعة في إدراك الروابط المرئية واللامرئية الموجودة بين لغة الكتابة وما حولها من إنتاج ثقافي حضاري خاص بها مضافا إلى ما بينها وبين غيرها من اللغات والثقافات والحضارت من تفاعلات فيها ثراء وانفتاحات مؤدية إلى قراءة عالمَي الشهادة والغيب باستثمار أكبر عدد ممكن من الزوايا، وذلك ليسير الكاتب المبدع نحو تجسيد رؤيا متفرّدة لم يتميّز بها سابق ولن تصبح بطاقة هوية ذاتية ثقافية للاحق.
وبالتوازي مع هذا المنطلق يرحل المبدع متمرّنا مع الكتابة التجريبية حتى يدفعه تزاوج وتمازج قدراته الفطرية والمكتسبة للاهتداء إلى الحقل الأدبي الذي يكون فنه الأول بصورة طبيعية تبدو للبصر المجرد أمرا عاديا لكنها في نظر البصيرة أمر معقد في تركيبه متميز في جماله سامق في إدراكه متطور في استشرافه رقراق في أدائه لرسالة الفن في الحياة، كما يتضح من باقي أسئلة الكتابة.
السؤال الأول : لماذا يكتب المبدع ؟
تحدث المهتمون بهذه المسألة كثيرا وطويلا، فمنهم من ردّها إلى الضرورة الواقعية ومنهم من ربطها بالمتعة ومنهم من جعلها وسيلة لجلب إعجاب الآخر بغية السيطرة عليه ومنهم من لخصها في الرسالة الآنية ومنهم من جعلها في خدمة المصلحة وما ينحو هذا المنحى الذي يقف غالبا عند جزئيات واستثناءات ومرحليات. وتبقى الكتابة الإبداعية أكبر من كل هدف مباشر لأن صاحبها يحمل هواجسها بعنف صاخب في صمت وتحمله هواجسها بصور لا تخلو من عنف وصخب وصمت بحكم إدراكه اللامحدود لتناقضات الحياة وتداخلات جمالها بقبحها… من هنا؛ تبقى سببية الكتابة الإبداعية العظيمة سرّا غامضا في أكبر جوانب مساحتها المبهمة إلا أن هذا الإبهام السرابي الضبابي لا يحرم الكاتب المبدع من تحديد موقف وجودي يتخذه مَعْلما في مساره، وأجمل ما كتب له بنو الإنسان وسيظلون يكتبون له في شتى أصقاع المعمورة هو ارتقاء إنسانية الإنسان كي يصل أو يقترب على الأقل من رحاب التكريم الذي خُصّ به دون غيره من الكائنات، وأعظم ما يجب أن يكتب عنه حملة الحرف العربي المبدع في هذا العصر هو الدفاع عن وجودهم التاريخي الراهن بوصفهم أمة ذات حضارة لها عقيدتها الرئيسة ولغتها الرئيسة وثقافتها الرئيسة وطموحاتها المستقبلية الرئيسة وهويتها الخاصة الرئيسة من غير أن تجعل الأقليات المتعايشة معها منذ قرون خارج اهتماماتها المركزية مع ضمان احترامها الكامل لها باحترام خصوصياتها منفردة ومجتمعة، كما حدث في أزهى العصور الذهبية.
السؤال الثاني : لمَن يكتب المبدع ؟
عادة ما كتب المبدعون لقارئ واقعي أو قارئ مفترض في حيز محدود دونما أن يأخذوا غالبا بالحسبان صدام الحضارات والديانات والثقافات واللغات والأمم المتصارعة بمختلف آليات الصراع من أجل الهيمنة على الآخر بما يترتب على ذلك من جرائم وامتيازات، واليوم لقد تغير الأمر كثيرا إذ أصبح الإنسان المبدع يكتب للإنسان في حاضره ومستقبله بصفة عامة، فما ينزل النص الهام إلى الأنترنيت حتى تتخطفه اللغات مترجمة له ويلف العالم في لحظات معدودة ويمر أمام عيون الأصدقاء والأعداء كما يمر أمام عدسات المخابر والمخابرات وغير ذلك… من هنا بات للكتابة الإبداعية الهامة ذات التأثير قارئ آخر لا يمكن تصوره بدقة، لا واقعيا ولا افتراضيا … ومن باب حسن إدارة الصراع القائم الذي لا مفر منه في الزمن القريب ولا نجاة من آثاره الخطيرة إن استمر وضعنا الوجودي على ما هو عليه من اهتزازات زلزالية تفتح الثغرة وراء الثغرة؛ علينا أن نكتب إلى القارئ الإنسان في كل مكان وفق صورتين متداخلتين : إحداهما موجهة للأنا الجمعي ليُعيد إلى الأمة مقاييس وجودها الموحد بدفاعها عن نفسها ومساهمتها في الحضارة البشرية انطلاقا من هويتها وخصوصيتها وحاجاتها وطموحاتها، والثانية موجهة للآخر في أشكاله المتعددة من أجل تقديم أنفسنا بأنفسنا إليه وتصحيح صورتنا عنده إذا كانت مشوّهة بفعل فاعل وتعميق تجليات خصوصيتنا حتى لا نذوب في هذا الآخر المهيمن ونخرج من مسرح التاريخ.
السؤال الثالث : كيف يكتب المبدع ؟
الكاتب المبدع فنان، والفنان المدرك لماهية الفن ورسالته تكون بالضرورة أدواته جميلة تنتج التشكيل الجمالي وليس التشكيل الذي لا جمال فيه أو جماله نازل تحت الحد الأدنى الذي يترقبه المتلقي. وهذا الجمال المرتقب في الإبداع الأدبي لا يجسده إلا الأداء اللغوي بأدبيته الراقية وإتقانه للمعلوم بالضرورة من علوم لغة الكتابة ومعارفها الخاصة بها… وهذا الجمال اللغوي ليس واحدا في كل الأقوال والأحوال بل هو متعدد بتعددها فالشعر له تشكيله الفني والسرد له تشكيله الفني والتمسرح له تشكيله الفني وهكذا دواليك في بقية أنواع الكتابة الإبداعية وأجناسها … وبقدر ما كان القاموس ثريا منفتحا على انزياحات جديدة والقواعد صحيحة والخيال حرا والزاد المعرفي واسعا والقابلية للتطور والإضافة حاضرة والهاجس الإبداعي مؤطرا باستعداداته وعزمه ورؤيته ورسالته بقدر ما كانت الكتابة إبداعا عظيما يخترق حدود الزمان والمكان والثقافات والحضارات … أما عن ظروف الكتابة ومحفزاتها وأوقاتها فالمسألة تبقى شخصية متغيرة باستمرار الاستمرار حتى عند الكاتب الواحد أحيانا.
السؤال الرابع : بم يودّع المبدع النص الذي أنجبه ؟
الحفل الذي يقيمه المبدع بعد كل إبداع جديد ليس هو البهرجة الإعلامية الإشهارية في مستواها الضيق او مستواها الواسع وإنما هو مجالسته على انفراد لإبداعه بوصفه الوحيد الذي عايشه منذ اللحظات الجنينية الأولى إلى غاية ولادته، وأيضا بوصفه أول المتلقين له مباشرة بعد الولادة، وهذا لينظفه مما فيه من أدران ويلبسه لباس الخروج الذي لا عودة بعده.
السؤال الخامس : ماذا يحدث بعد انفصال المبدع عن نصه ؟
بعد خروج الإبداع من يد المبدع إلى رحاب الحياة؛ على المبدع ألّا يصبح عالة على إبداعه أو حارسا على ثغوره أو موجها لمساراته أو منتظرا ما يترتب على خروجه إلى الحياة بل الأفضل للنص والناص على حد سواء أن تحدث شبه قطيعة بينهما بترك النص يفتح طريقه بنفسه كي لا يسقط بعد سقوط الوصاية عليه عاجلا أو آجلا وبتوجه الناص نحو أفق أبعد وأوسع بطموحات جديدة وعزم أرقى من سابقه… وهكذا ينجو كلاهما من اللف والدوران حول ذاتيهما في مساحة ضيقة وتستمر الحياة الإبداعية متجددة متحررة من قيود المكتسب الذي أصبح قديما بمجرد اكتماله وخروجه إلى الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم الأستاذ الدكتور بومدين جلّالي