الجمعة , مايو 17 2024
الرئيسية / قصة وسرد / الشاعر العربي تلميذ رواد الحداثة عبد اللّه عبّاس خضيّر (مذكّرات)

الشاعر العربي تلميذ رواد الحداثة عبد اللّه عبّاس خضيّر (مذكّرات)

العازف الأخير
عبداللّه عبّاس خضيّر
*****************
دوزنــــــــتُ قلبي وشرايينَه
من قبل أن يعزفَني العازفُ

عبد اللّه عبّاس خضيّر (مذكّرات)
**************************
تشكُّلات أولى //

كنت ُمنذ الطفولة مخطوفا ًمنّي ، سابحا ًفي بحر ٍمن رؤى الجمال لاتنتهي ، عميق الصّمت كأن ّالأبديّة تحدّثني من الدّاخل وكان جمال القرنة ، والنهيرات خاصّة التي هي حديقة كبيرة على ميمنة دجلة قبل معانقته الفرات ، تؤكّد وتعمّق في نفسي هذا الجمال وذاك الصّمت ، فبين الهور الكائن الخرافي ّالعظيم المشرور بين البصرة وذي قار وميسان متّصلا ًمن الشّرق بإيران … بمائه الموّار وقصبه وبرديّه وجولانه وسمكه وطيره ، والصّبايا والمواويل والمشاحيف والعشق … وبين دجلة الهدّار المطوّق نخلا ًوزرعا ًوصيّادين وجنائب وأكلاكا ً ، لم يبق لي منّي مجال ٌللكلام ، كنت ألتهم هذا الجمال ، وأعب ّ منه عبّا ً في سبحات من التّصوّف والتوحّد والذّوبان … لذلك تواشجت في ّالرومانسية منذ الصّبا لا كمذهب فنّي أكاديمي بل كمذهب حياة ومكابدة ومقاساة عميقة … وانصعاق أمام مشهد الجمال يصل حد ّالذّهول …

وكانت المرحلة الابتدائيّة فرصة لتنمية الإحساس بالجمال وتذوّقه ، فكانت حصّة الرّسم فضاء للحريّة يدخلني في عوالم اللون والظل ّوالخيال ، وكان تنغيم المفردات وموسقتها بصوت جهوري ّيستهويني ويدخلني إلى عتبة الشعر ، كما كانت مكتبة المدرسة وقصص الأطفال التي نلزم باستعارتها مجالا ً آخر لدخول عالم القراءة والدّهشة . والطريق إلى المدرسة محفوف بالبساتين والجداول يقف الهور شامخا ً على ميسرته حافلا ً بالأسرار لحظة استيقاظ القرية من نومها وانطلاق الكادحين والمزارعين والمشاحيف والطيور والصيّادين .
ولعل ّمن أسعد أيّام حياتي ذلك اليوم الذي اهتديت فيه إلى مكتبة القرنة العامة التي فتحت لي أبواب القراءة على مصراعيها ، كان ذلك في المرحلة المتوسطة ، وبداية تعرّفي على كتابات المنفلوطي وجبران والزّيات ، ولاحقا ً على روايات جرجي زيدان . للدخول بعدها إلى أعماق المكتبة العربيّة .

وكانت المكتبة العامّة ، والحق ّيقال ، تحوي نفائس التّراث العربي ّشعرا ًونثرا ًوتاريخاًوفلسفة ، إضافة إلى روائع الفكر المترجم عن لغات شتّى ، وبطبعات أنيقة فاخرة التجليد ، فوجدت نفسي غارقا ًفي بحر لا شاطيء له …
ومن جانب آخر كانت الرياضة وكرة القدم خاصة تأخذ الوقت الكبير منّي ممارسة ومتابعة ، وكانت الحياة الرّيفيّة تعد ّالصبي ّ ليكون رياضيّا ًبشكل طبيعي ّفنحن نتقافز بين شبكة من النّهيرات والجدوال التي تنتشر حول بيوتنا وتدخلها وقت الصّيف ، فلا يعجبنا أن نعبر على القناطر المصنوعة من جذوع النّخيل مختصرين ذلك بقفزة نتراهن عليها أحيانا ًمصحوبة بمسرحيّات هزلية مضحكة حين يقع البعض في منتصف الجدول … وكنّا نتسلّق النخيل بسلاسة رغم طوله وخلو ّجذعه من الكرب ، وكنّا نسبح في دجلة مع الصّبيّات البالغات تحت عين القرية فلا غرابة ولا استهجان ، وكان عبور دجلة سباحة رغم تيّاره العارم ذهابا ً وإيابا ًفي عمليّة استعراض أو رهان على السرعة ، يجري يوميّا ً، وكانت القريّة كأنّها بيت كبير مسقوف بسعف النّخيل ، وسياج البيوت من القصب أو البردي ّفي الغالب فلا حواجز كبيرة ، وكان الجار يعرف ماذا طبخ جاره اليوم ، فربّما جاءت النسوة تقتدح من قدره عفويّا ًأو مع نكتة بارعة ، وإذا مرض أحد ٌ أو توفي تراكض الجميع رجالا ونساء ، صغارا وكبارا … ولم تكن قرانا تعرف القتل أو العدوانيّة وحمل السلاح ضد ّبعضهم ، ومشاجراتهم بالعصي ّتحل ّبجلسة شاي وقبلات متبادلة . أمّا عراك الشّبان فينتهي غالبا ًبصفعات على الظهر يقوم بها أي ّرجل كبير أو امرأة عجوز للطرفين

في الثّانويّة //

كان مدرسو اللغة العربيّة في ثانويّة القرنة للبنين في غالبيّتهم من الأدباء فالمرحوم صبري هادي مثقّف وناقد ومحمّد راضي جعفر شاعر كبير وعبد الإله عبد الرّزاق قاص ّوناقد وخالد علي مصطفى شاعركبير فليس غريبا ًأن تنشأحركة ثقافيّةومسرحيّة حيث أخرجت في ستينات القرن الماضي مسرحيّات عربيّة وعالميّة من قبلهم أتذكّر منها مسرحيّة ( ما وراء الأفق ) التي مثّل فيها المدرّسون والطلبة على مسرح إعداديّة القرنة ومسرح متوسطة الملتقى … وقد أحببت درس العربيّة وشغفت به ، وكنت مغرما ًبكتابة الإنشاء بتشجيع من الشاعر محمّد راضي جعفر الذي كان يلزمني بقراءة الموضوع على السّبورة ، برغم ما في ذلك من تردّد وخجل ولجلجة … تجاوزتها بالتّكرار ، وكان يعطيني درجة كاملة ، ومن مقالبه أنّه دخل علينا في امتحان البلاغة ، فسحب ورقتي وقال بغضب ( اطلع خارج ) وحين خرجت خائفا ًأوصى الطلاب بعدي أن يخبروني بإعطائي درجة كاملة … وحين أعطيته أولى قصائدي من الشعر العمودي قرأها في الصف ّ، وأرسل طالبا ًليجلب ظرفا ًّ وطابعا ًبريديّا ً، وكتب عليه عنوان مجلّة الأقلام / بغداد … ثم ّأهداني سلسلة كاملة من الكتب بعنوان ( شعراؤنا ) ل عبد اللطيف شرارة شملت ( شوقي وخليل مطران وحافظ ابراهيم والشابي …) ما زالت في مكتبتي ، وبذلك حسمت توجّهاتي الأدبيّة والشعريّة .

كنت مهووسا ًفي المرحلة الإعداديّة بالشعر العربي ّالقديم لاسيّما الشّعر الجاهلي ّ، ورغم صعوبته إلا أن ّالإحساس بفخامته وجزالة لغته وهيبته ، كانت تأسرني لأسباب شتّى ، ربّما بسبب ذلك البدوي ّالذي يسكننا أينما حللنا ، وربّما للتّظاهر والتباهي الثّقافي ، لكن ّالأكيد أيضا ً أن ّذلك الشّعر يحمل عوامل خلوده في ذاته ، ففيه من قيم الجمال والفن ّما فيه ، كما أنّه ظل ّبعيدا ًعن الأدلجة والتسييس إلا ما ندر في أروع نماذجه ، لذلك وبوجود شتّى المصادر والمراجع في المكتبة العامة تغلغلت فيه بعيدا ً، وتذوّقت أروع قصائده ، إن ّشرح المعلّقات السبع والعشر ، ودواوين الحماسة ، والمفضّليّات والأصمعيات ، والجمهرة ، ودواوين شعراء الجاهليّة ، وكتب الطبقات ، ودواوين القبائل … كانت حاضرة معي في المكتبة العامّة التي أكرمني أمينها بالسّماح لي بالاستعارة الخارجيّة ، وكان الأستاذ علي جلال أمين المكتبة مؤلف أغان معروفا ً ومثقّفا ً ، ومهتمّا ًبتشكيل فرق كرة القدم ، وكنت لاعبه المفضّل ، وتغلغلت في كتاب الأغاني والأمالي والعقد الفريد والصناعتين والموشّح والكامل في الأدب ، ونفح الطيب والمقدّمة ، عبورا ًإلى مصنّفات اللغة والنّحو … وكنت أسجّل وأنقل وأكتب وأحفظ ، فامتلأ رأسي َالصّغير ثقافة وغرورا ً تجاوز بكثير مرحلة الإعداديّة ، وتشبّع بالشّعر العمودي ّالكلاسيكي ّ، وبنثر طه حسين والزّيّات وأحمد أمين ، غير أن ّ متغيّرا ًجديدا ًبدأ يدخل رأسي متمثّلا ًبالشعر والأدب الرّومانسي ، ووجدتني أغرق ثانية مع أبي ماضي وجبران وأبي شادي والمهندس وناجي ومحمود حسن اسماعيل …

كانت الدراسة الإعداديّة في العراق في الستينات من القرن الماضي وما قبله تنتهي بالصّف ّالخامس الإعدادي الذي يؤدّي فيه الطلبة امتحانا ً وزاريّا ًفي آخر العام وبالتّحديد في حزيران من كل ّعام ، يشمل المناهج الدراسيّة للصّفيّن الرّابع والخامس الإعدادي ّمعا ً وبأيّام ٍمتلاحقة ، لذلك كانت المهمّة شاقّة ، وفي عام ١٩٦٧ م وبعد يومين أو ثلاثة من بدء الامتحان ، بدأت حرب حزيران ، وانطلقت الطائرات الصّهيونيّة المقاتلة ، لتدمير المطارات المصريّة وأسراب الطائرات المصريّة ، وهي جاثمة في ملاجئها ، صاحبها احتلال شبه جزيرة سيناء وعبور قناة السويس ، في ما سمّي بخطّة الحمامة ، رافقها تقدّم في الجبهة السّوريّة واحتلال الجولان ، واحتلال معظم الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ، وتقديم جمال عبد الناصر استقالته بعد نكسة حزيران … كل ّذلك والامتحانات الوزاريّة في العراق تجري في مواعيدها في ظل حكومة هزيلة هي حكومة عبد الرّحمن عارف . وكنّا نتمزّق ألما ًوحماسا ً لكنّنا كنّا مستمرّين في أداء الامتحانات في هذا الجو ّالسّاخن والعاصف ، ونتابع بيانات إذاعة صوت العرب من القاهرة بصوت أحمد سعيد ، وإذاعة ال بي بي سي اللندنيّة ، وانتهت الحرب بنكسة كبرى ، وحزن عميق ، ليدخل العرب في مرحلة جلد الذّات والنقد الذاتي … وجاءت النتائج الامتحانيّة ونجحت بمعدل عال أهّلني لدخول كليّة التربية بجامعة البصرة .

في الجامعة //

كانت جامعة البصرة في قضاء شط ّالعرب ( التّنومة ) على مسافة 20 كم فقط من الحدود العراقيّة _ الإيرانيّة ، في مساحة مفتوحة معزولة عن ضوضاء المدينة ومواصلاتها فيها ناد كبير ومكتبة مركزيّة ، وكان عبور شط ّالعرب إليها يتم ّبالعبّارة ( الطبكة ) ثم ّتنقل حافلات خاصّة الطّلبة مجّانا ًإلى الجامعة .
هذا الطّريق الجميل كان من وسائل تجديد النّفس والرّوح والمشاعر عند الطلبة ، وكانت الأقسام الدّاخليّة ، تتوزّع في أجمل وأرقى مناطق البصرة بخدمات جيّدة ، ومنحة مالية مناسبة ، وكان التقديم إلى الجامعة مباشرا ًمن قبل الطّلبة ، قدّمت أوراقي وقبلت في كليّة التّربية ، وكان التّخصص يبدأ من المرحلة الثّانية ، أمّا المرحلة الأولى فعسيرة شاقّة لكثرة وتنوّع موادّها الدّراسيّة ، وبعد تجاوزنا المرحلة الأولى بنجاح ، تمّت مقابلتنا مباشرة من قبل لجنة مشكّلة من أعضاء يمثّلون الاختصاصات المختلفة ، العربيّة والانجليزيّة والتّاريخ والجغرافيا … كنت متفوّقا ًبوضوح في العربيّة والانجليزيّة ، مع ميل داخلي ّنحو العربيّة ، لذلك تمسّك بي الطرفان ، ثم ّحسم ذلك الشاعر الدّكتور حسن البياتي بقوله : أنا أعطيه بيتا ًمن الشّعر ليعربه ، فإن استطاع قبلناه في قسم العربيّة ، وذكر بيت المعرّي /
وإنّي وإن ْكنت ُالأخير َزمانُه ُ لآت ٍبما لم تستطعْه ُالأوائل ُ
وبعد أن أعربته قال : هذا محسوم ٌتخصّصه للعربيّة ، وبذلك دخلت مرحلة شاقّة لكنّها محبّبة ومتناغمة مع كل ّتطلّعاتي واستعداداتي الذّاتيّة السّابقة .

كان الدّكتور عبد الهادي محبوبة رئيسا ًلقسم اللغة العربيّة وكانت معه في ذات القسم زوجته الشّاعرة والنّاقدة الرّائدة نازك الملائكة وكانت شهرتها قد أطبقت الآفاق بمشاركتها السّياب ريادة قصيدة التّفعيلة ، وتنظيراتها الرّائدة للحركة الشّعريّة الجديدة في كتابها ( قضايا الشّعر المعاصر ) ، وكانت تدرّسنا في المرحلة الأولى مادّة ( كتاب قديم ) ، وكان كتابها المختار للقراءة كتاب ( الكامل للمبرّد ) ، وبدت لنا في استقصاءاتها النّحويّة واللغويّة واطّلاعها الموسوعي ّعلى الشّعر العربي ّالقديم وأخبار شعرائه وكأنّها خنساء أخرى قد بعثت من جديد ، هكذا يكون التّحديث إذن ، وعلى أرضيّة كهذه يبنى . وحين درّستنا العروض في المرحلة الثّانية كانت بحق ّكما لقّبت ( فراهيديّة القرن العشرين ) ، وكنت من طلبتها المتميّزين في علم العروض فقد خبرت ومارست الكتابة الشّعريّة في وقت مبكّر ، وصار التّقطيع الشّعري ّلدي ّيتم ّتلقائيّا ً، وكنت أحرز درجة كاملة في امتحانات العروض ، على قلّة من يتقنه ، كصديقي الشّاعر المبدع الأستاذ عبد العزيز عسير ، الذي قطع شوطا ًفي التّنظير العروضي ّكذلك . وكانت نازك الملائكة تتعهد المواهب الأدبيّة فكانت حالما ننهي دراسة بحر شعري ّتطلب منّا أن ننظم قصيدة عليه في المحاضرة القادمة ونقرأها في الصّف ّ … ومن مفاخر جامعة البصرة الدّكتور عبد المنعم خضر الزّبيدي ّ، فهو من نمط الأساتذة العظام ، كانت الأصالة والدّقة والمنهجيّة العلميّة والموسوعيّة وتلاقح الثقافات ، ودقّة الملاحظة والفرادة في تحليل النصوص تتظافر في شخصيّته ، فهو مختص ّبالنّقد المقارن ، وما أن درّسنا الأدب الجاهلي ّحتى رأينا العجب العجاب في تحليل الصورة والموسيقى والجرس والإيحاء ، وكان كتاب الدكتور محمّد النويهي ، وهو تلميذ الدكتور طه حسين ، ( الشعر الجاهلي ّ منهج في دراسته وتقويمه ) قد فتح آفاقا ًجديدة لدراسة الشعر الجاهلي ّدراسة صوتيّة . وقد طبعنا الدّكتور الزبيدي ّبطابعه فصرنا نترسّم خطاه في التحليل والاستقصاء وتوخّي دقّة المصطلح . ومعروفة مناقشاته مع أساتذة قسم اللغة الإنجليزيّة عن شكسبير ، وكان يدرّس قسم الإنجليزيّة الترجمة . وكان الدكتور ناصر حلّاوي الذي أصبح رئيسا ًلقسم اللغة العربيّة فيما بعد غارقا ًفي الدّراسات النّقديّة والبلاغيّة ، وقد درّسنا البلاغة كما درّسنا المكتبة وأصول البحث ، فكان واسع الثقافة ،ميّالا ًللمدرسة الذّوقيّة في البلاغة مترسّما ًخطى عبد القاهر الجرجاني ّوالجاحظ وابن سنان الخفاجي ّ، ناقدا ًلمسلك السّكاكي ّوالقزويني ّفي النّحو بالبلاغة منحى كلاميّا ًمنطقيّا ً، ومن أروع الأساتذة كان الشّيخ الدّكتور محمّد سيّد طنطاوي ، الذي أصبح فيما بعد شيخ الأزهر ومفتي مصر ، وكان معارا ًللتدريس في جامعة البصرة ، فكان بحق ّمثال التّواضع والبساطة وحب ّالنّاس ولين الجانب مع علميّة موسوعيّة في التّفسير والحديث والنّحو ، وقد درّسنا الجزء الأوّل من شرح ابن عقيل ، فكان متبحّرا ًفي النّحو ، وكنت أحصل عنده على درجة كاملة في النّحو وقد كتب على دفتري الامتحاني ( جعل الله فيك عرقا ًمن سيّدنا عبد الله بن عبّاس ) وكان بعد أن يستقصي إجابات الطلبة يقول : أين العفريت ؟
كما درّسنا في التفسير كتابه الموسوعي ّوهو رسالة دكتوراه بعنوان ( بنو إسرائيل في القرآن والسّنة ) وفي الحديث كتاب الشريف الرضي ّ( المجازات النّبويّة ) ، وكان الدكتور فؤاد معصوم يدرّسنا الفلسفة والمنطق … وكان الدكتور حسن البياتي قد درّسنا الأدب الحديث كما درّسنا قسما ًمن منهج العروض بعد نازك ، ومن مقالبنا معه أنّنا كتبنا على سيارته وكانت قديمة يغطّيها الغبار
تهتز ّ كالكاروك في الطّسات ِ كأنّها سيارة البياتي
وحين قرأ ذلك دخل القاعة وهو يقول / ها قسم اللغة العربيّة /
أعلمه الرماية كل ّيوم
فلما استد ّساعده رماني
وكم علّمته نظم القوافي
فلمّا قال قافية هجاني
….. الأبيات .

قلقٌ ثقافيّ //

في بداية السّبعينات من القرن الماضي ، وكنت في المرحلة الثالثة ، كانت حركة شعر التفعيلة قد حسمت المعركة لصالحها ، وقد قام جيل ما بعد الرّوّاد بجهد استثنائي في تعزيز ورفد هذه الحركة بطاقات إبداعيّة جديدة ودماء شابّة في عموم الوطن العربي ، وكان شعر المقاومة الفلسطينيّة واحدا ًمن أبرز هذه الرّوافد وأنقاها ، وصرنا كطلبة مهتمّين بالشّعر بشوق عارم لكل ّإصدار جديد أو ديوان يصدر عن شعرائها بعد أن اطّلعنا على بدايات منجزهم الإبداعي ، في ( آخر الليل نهار / عاشق من فلسطين …) لمحمود درويش و ( سقوط الأقنعة ) لسميح القاسم وأعمال توفيق زياد وراشد حسين في هذه السمفونيّة الشعريّة الثوريّة الغنائية بلغتها العذبة ورموزها الشّفيفة ، وكنّا نحن البصريّين قادحي ثورة التّغيير في خارطة الشّعرية العربيّة وروّادها ، وقد عشنا المرحلة السّيابيّة وتمثّلناها ، وكانت تحتدم بيننا النّقاشات كدارسي أدب وشعراء مبتدئين ، حول أحقيّة الصّيرورات الشّعريّة الجديدة وشرعيّتها ، خاصّة بعد أن بدأ شعراء ما بعد الرّواد يتقدّمون بخطى واسعة في تقنيّات التّحديث الشعري ّ ، يتقدّمهم وينظّر لهم أدونيس ( علي أحمد سعيد ) عبر ( مجلّة شعر ) ثم ّمجلّة ( مواقف ) مع خالدة سعيد وأنسي الحاج كما كان الدكتور خليل حاوي وممدوح عدوان ومحمّد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور إضافة إلى شعراء الحداثة في العراق والذين واصلوا فتح آفاق شعريّة جديدة عبر ( البيان الشعري ّ) ومجلّة ( الشعر ٦٩ ) وشعرائها ثم ّ مجلة ( الكلمة ) ومجلّة ( الطليعة الأدبيّة ) … كنّا نخبة من طلبة قسم اللغة العربيّة نحاول أن نلم ّهذه الخيوط والخطوط متابعة ورصدا ً، وكانت مجلة ( الآداب البيروتيّة ) والدكتور سهيل إدريس منبرا ًلكل ّهذه الأصوات . ومن هذه النّخبة الطلابيّة التي كانت معي الشاعر عبد العزيز عسير والشاعر عبد الجبار الفيّاض والشاعر فوزي إبراهيم والشاعر شاكر العاشور والشاعر محمد صالح عبد الرضا … وجميعهم قدّموا أعمالا ًإبداعيّة ومنجزا ًشعريّا ًكبيرا .
وكانت لنا بين الحين والحين قراءات شعريّة في قسم اللغة العربيّة يحضرها بعض الأساتذة ، كما قام الشاعر فوزي إبراهيم وكنّا نسبقه بمرحلة دراسيّة ، بإصدار مجلّة جداريّة نشر فيها بعضا ًمن نتاجاتنا . وكان الشاعر عبد العزيز عسير الأكثر قربا ً بيننا من شعراء البصرة المعروفين ، تواصلا ًوسكنا ًفكان يحدّثنا عن عبد الرزاق حسين وحسين عبد اللطيف والبريكان … وكنّا نخوض سباقا ًباتّجاهين ، متطلبات الدّراسة المنهجيّة وملاحقة مصادرها ومراجعها من جانب ، وملاحقة الحياة الأدبيّة والثّقافيّة والإصدارات الجديدة والمجلاّت العراقيّة واللبنانيّة والمصريّة خاصّة ، من جانب آخر …

الحنين ….. //

وكنّا نحن أبناء الرّومانسيّة الرّيفيّة ، القادمين من مرابع الجمال ومغاني الطّبيعة وعرائش العشق في القرنة وأبي الخصيب والكرمة … دائمي الحنين لتلك الجنان ، ولكلمات العشق الأولى ، وتلويحات الأيادي النّاعمة ، والشّفاه العسليّة ، والخدود المحمرّة خجلا ً، وللرسائل المدسوسة بين الدّفاتر ، والنّوافذ المضاءة عند الغروب ، والنّظرات المسروقة باستحياء ، وكانت قصائدنا الغزليّة الأولى تنهل من هذا المعين …
وكنّا حين نعود لأهلنا نهاية الأسبوع ، يكمّل ُأحدُنا الآخر لاستكمال أجرة السّيارة أوّلا ًبعد أسبوع من الإنفاق ، خاصة بعد أن أصابنا داء شراء الكتب والمجلات … وفي مناطقنا الجميلة كنّا نجد راحة نفسيّة ، وعودة إلى منابع الإلهام الشعري ّ، كما كنّا ننغمس مع فرق كرة القدم ، فالحنين إلى الرّياضة لا ينقطع …
لكن ّللجامعة فرقهاواستعراضاتها التي حرصت أن أنأى بنفسي عنها رغم وجود حصّة الرّياضة وأستاذها الدكتور أكرم والسّيدة واجدة … وحين يقترب موعد استعراض كليّات الجامعة ، يزداد نشاط ساحة الرّياضة ، ويبدأ بعض المستعرضين بالقيام ببهلوانيّاتهم أمام الطّالبات . كنت نحيفا ًكسهم صيّاد ، وبدأ البعض يستفزّني كبطل في الرّكض ، كنّا نقف قرب الدّكتور أكرم وكان البطل يتقافز ، لابسا ًالتراك ، همست في أذن الدّكتور أكرم ( أستاذ أريد أنازل فلان في ركض المائة ) . ومع استغراب الدكتور أكرم كنّا نقف على خط الانطلاق هو بملابسه الرياضيّة وأنا بكامل ملابسي الجامعية فسبقته ، قلت الآن نقفز العريض فتجاوزته ، كانت مجرد تحد ّ ، ومقت للبهلوانيّات ، ولم أدر أنّني وقعت في ورطة ، فكان الدّكتور أكرم قرب عميد الكليّة لإخباره عن اللاعب الجديد ، ولم تنفع آلاف الأعذار بأنني في السّنتين الأخيرتين أريد إحراز المعدّل الأعلى في القسم ، وعلى عجل كان الدّكتور أكرم يسلّمني كيسا ًفيه كل ّمستلزمات السّاحة والميدان ، وقال مضيفا ًسنحاول مساعدتك في آخر العام ، ونحن نتمرّن يوميّا ًبعد الدّوام في ملعب الميناء . وزادت معاناتي بين الدّراسة والرّياضة ، لكنّني حصلت على الأول في العريض والثاني في مائة متر والثّالث في القفز العالي . ونقل الاستعراض تلفزيون البصرة نقلا ًمباشرا ً في حينه .
وداعا ًجامعة البصرة //

في نهايات المرحلتين الثالثة والرّابعة ، هناك فترتان للمشاهدة والتّطبيق ، وأظنّننا صرنا مهيّئين تماما ًلنقف في الصّف مدرّسين ، ومربّين ، خاصّة وأن ّالاستاذ الدّكتور حسن الفقي وهو من أبرع الأساتذة المصريّين في التّربية وعلم النّفس وطرق التّدريس كان قد بذل جهدا ً كبيرا ًفي التّدريس والتّوجيه ومناقشة مختلف الاتّجاهات والنّظريّات في علم النّفس وفلسفة التربية وطرق التدريس العامّة والخاصّة ، وذات يوم فاجئنا بطلب صاعق /أريد طالبا ًيؤدّي درسا ًفي المتوسطة
للتلاميذ في مادّة النّحو ، ونحضر معه الدّرس جميعا ً. وصمتنا جميعا ًكأن ّعلى رؤوسنا الطّير ، وابتلعنا ألسنتنا الطويلة وبطولاتنا النّحويّة ، ظانين أنّه سيصرف النّظر عن طلبه ، لكنّه أعاد الطّلب بقوّة مع محفّزات وتوبيخات . وكان تحدّيا ًآخر ذكّرني بالرّياضي ّالمتقافز في ساحة الجامعة . ورفعت يدي بالإيجاب وسط ذهول الطلبة ، فلم أكن من أجرئهم وإن كنت من أعلمهم . وحدّد لي متوسطة التحرير / الثاني المتوسّط / اسم الإشارة / اليوم والدّرس . لقد حسم الأمر إذن ، ما الذي دفعك إلى هذه الورطة ؟ وحين تخيّلت الصّف الذي سأدرس فيه ( ثلاثون تلميذا ًفي الثاني متوسط وأربعون طالبا ًوطالبة في المرحلة الرّابعة كلية التربية مع دكتور اختصاص تربية وعلم نفس وطرق …) ودارت بي الأرض دورات . لا مشكلة لي مع المادّة ولا مع تلاميذ المتوسطة ، المشكلة في هذا العدد من الطّلاب والطّالبات الذين صمتوا وقت الطّلب وسيسلقونك بألسنة حداد وقت المناقشة بعد الدّرس ، وفي هذا الدّكتور المتبحّر في التّربية وعلم النّفس والطّرق . ومضيت ، وكتبت خطّة تفصيليّة للدرس بكل ّخطواته ومخطّطاته وأمثلته ، وحان وقت الدّرس ، قاعة بمقاعد باتجاهين جانبيّة لطلبتنا ، ومقابلة للسّبورة للتّلاميذ . وبدأت ، بالفصحى وبالمزاوجة بين الشّرح وتوزيع الأسئلة ، وكتابة الملخّص السّبّوري ، خطوة بعد خطوة بضبط صارم يصلح للنّحو ، ومضى الدّرس متسلسلا ً ، سلسا ً، مشوّقا ً، مع تفاعل لافت من التّلاميذ واستيعاب واضح ، وانتهيت قبل دق ّالجرس بدقائق فكلّفتهم بحل التّمرينات كواجب بيتي . ودق ّالجرس وسكت ّ ُعن الكلام المباح .
وقام الدّكتور حسن الفقي ، وصرف تلاميذ المتوسطة ، وبدأ هو بالكلام بكلمات قطعت الطريق على أي ّ ِ مناقش في نفسه شيء ، قال أنا معجب بهذا الدّرس ، وتوجّه بالسّؤال لي / هل درّست َ طلابا ًسابقا ً؟ قلت لا إلا ّأفرادا ًمن أقربائي ، وبدأ يكيل المديح والإعجاب وذكر الإيجابيّات واحدة واحدة ، وبدأ الطلبة يضيفون إيجابيّات أخرى … وتنفّست الصّعداء فها هي تجربة صعبة قد انقضت .

عن الحركة الأدبيّة في القرنة //

كانت الحركة الأدبيّة في القرنة
نشطة منذ بدايات النصف الثاني
من القرن العشرين وكانت إعداديّة القرنة
التي أتيح لها مدراء مثقفون من وزن صبري هادي
ثم ّمحمد عبد الجبار المعيبد
ومدرسون مثل خالد علي مصطفى ومحمد راضي جعفر
والشيخ يونس المظفر والقاص عبد الإله عبد الرزاق
كانت تقود النشاط الثقافي ّوكانت الحركة المسرحيّة
وإخراج مسرحيّات عالميّة أحد وجوه نشاطها

ولم يكن الدكتور نوري جعفر
العالم البصري ّالكبير
آخر من جادت بهم القرنة
فبيت العم ّراضي جعفر
المطل ّعلى الشارع المقابل لقيصريّة القرنة
وسوق القرنة القديم بتوابله ومقاهيه وعطاريّاته
يتربّع غير بعيد ، محاذيًا لدجلة
قبل لقائه الفرات عند شجرة آدم .

كان هذا البيت الوديع
قد خرّج أبا فراس
الدكتور الشاعر محمّد راضي جعفر
والدكتور الشاعر والناقد عبد الكريم راضي جعفر .

وعلى مرمى حجر منه
يقع بيت الأستاذ الأديب
المرحوم صبري هادي
الذي توحي هيئته وهيبته
بالفلاسفة العظام في القرون الوسطى
خاصة بعد أن اعتمر القبّعة أواخر أيامه

وكان يحدّثنا
نحن تلامذته ثم ّأصدقاءه
عن ديكارت وكانت وهيغل وفوكو
في أيّما لقاء في المقهى المحاذي لبيته
أو في وقفة عند الغروب على شاطيء دجلة
كان متخصّصًا في الماركسيّة بلا انتساب سياسي ّ
وكان داخلا في تفاصيل ومفاصل سوق القرنة القديم
يحاور (حيّاوي) الخيّاط في قيصريّة القرنة
عن أدق ّتفاصيل الماركسيّة …

وقد كان ذا تأثير برّاق على جيل من الشّباب
ومن ذوي المهن خيّاطين وبزّازين
وبعضهم صاحب مكوى ملابس
وقد نشر بعد 2003 بعض كتاباته في صحف بصريّة
كنت مع الأستاذ الشّاعر الصّديق محمّد حبيب
من متابعيها …

وآخر زيارة له قبل وفاته
كانت لنا مع الصديق الدّكتور وسام جمعة
والأستاذ محمّد حبيب
وقد رثيته بعد وفاته بقصيدة في ( وصايا إله الماء ) .

وفي كازينو مرطبات قريب
كان كامل الحاج نعيم
الشاعر الشعبي ّالعاشق
محطّة استراحة مطرّزة بالشعر
فصيحه وشعبيّه …

وتقع كازينو المثقّفين
( كازينو الحاج كاظم جعفر )
بإدارة يونس مقابله على مقربة
من شاطيء دجلة …
كانت مدرسة للسياسة والفكر والأدب …

وكان نادي نقابة المعلمين
ودار استراحة القرنة
من المحطّات الثقافيّة والأدبيّة .

ومن أدباء القرنة المعروفين
الشاعر سامي جبر
وهو مدرّس عربيّة وخرّيج كليّة الفقه
له عدة دواوين مطبوعة …
والشاعر عبد الرحيم مردان الشاهين
ماجستير في اللغة العربيّة
وله إصدارات شعريّة مطبوعة …

ومن قصّاصي القرنة الأستاذ
المرحوم مزهر جاسم
وله أعمال قصصية مطبوعة …
والقاص المهندس بندر جاسم
وله الكثير من الأعمال القصصيّة المطبوعة .

ومنهم القاص أحمد إبراهيم وهو معروف
في الوسط الأدبي ّالبصري ّ…

والفنان القاص عباس فالح
والفنان الناقد صباح السبهان
ولهما إصدارات معروفة …

والأستاذ الشاعر محمّد حبيب تمر
والشاعر عبد اللّه عبّاس خضيّر
وله سبع مجموعات شعريّة مطبوعة …

وكنّا بعد عام 2003
قد أسسنا في إعداديّة القرنة للبنين
مشغل القرنة الثقافي ّ
برعاية مديرها السيد ماجد حمود
وكنا نتابع فيه ونلاحق نقديّا آخر
ما كتبه أدباء القرنة في جلسة أسبوعيّة

وقد واظب على حضور هذه الجلسات
السادة المرحوم هاشم خضير والشاعر سامي جبر
والقاص بند جاسم والشاعر محمد حبيب
والدكتور وسام جمعة والشاعر عبد الرحيم مردان
والشاعر عبد اللّه عباس خضيّر

وينبغي الإشادة بالدور الذي قام به
الشاعر الدكتور صدّام فهد الأسدي ّ
في التعريف بشعراء القرنة فقد كتب
مقالتين عن شعريّة عبد اللّه عبّاس خضيّر
ومجموعتيه ( قراءة في سيرة التتار )
و( وصايا إله الماء ) وعن الشاعر سامي جبر
نشرها جميعا في( المثقف ) ثم ّفي كتابه
( قوافل بلا هوادج ) وفي ( كتاباته النثريّة ) …

وهناك نخبة من الأساتذة الأكاديميين
يمارسون التدريس والكتابة
في جامعة البصرة وغيرها من الجامعات .

بعد التّخرّج /
( المستقبل الملتبس ) //

بدل أن أفرح بالتّخرّج بتفوّق
وبمعدل (86) وبالمرتبة الثّانية
على قسم اللّغة العربيّة في كلّيتي التّربيّة والآداب
كان علي ّأن أهيّأ نفسي للخدمة العسكريّة
التي صدر قرار في رئاسة البكر
بشمولها الخرّيجين
لأعيش معاناة من نوع جديد

فمنطق رأس عرفاء مركز تدريب مشاة البصرة
يقول (لا خرّيج ولا أبريج فأنت جندي)
ومحاضراته عن ( فوائد الصّدق )
و( القصعة متعددة الوظائف
فهي لنقل التراب والطابوق والطعام
الذي يوزّع بكرك نحفر به الأرض ) .

وكم مرّة جمعنا رأس العرفاء
نحن فصيل الخرّيجين ليسألنا
من فيكم يقرأ ويكتب ؟

واللّحية التي نحلقها ليلًا
لتنبت صباحًا
والبصطال يستهلك علبة صبغ .

وعن سياق حياة
مختلف تمامًا عمّا ألفناه في الجامعة .

كان الأمر صعبًا للغاية
أن تعيش حياة ليست مستقبلك
وممارسات ليست اختصاصك
خاصّة في ظل ّسياقات عتيقة
مستقرّة منذ أمد بعيد
صمّمت في الغالب لغير المتعلمين
وللأميّين ولمّا يكن تحديث الفعاليّات
والسّياقات العسكريّة قد بدأ بعد

في وضع كهذا
وردتنا أنباء عن موافقة وزير الدفاع
على تأجيل خدمتنا سنة واحدة
بطلب من وزارة التربيّة
وكان علينا أن نراجع وزارة الدفاع
لاستلام الموافقة هذه
لإجراء انفكاكنا من الجيش

ولم نعط َإجازة من مركز التدريب
وتطوعت للذهاب إلى بغداد
لجلب كتاب التّأجيل وغبت يومين
لأجل ذلك

وعند العودة
كانت دورتنا في مركز التدريب
في البصرة قد انتهت وتم ّنقلنا
إلى وحدات فعّالة في بغداد
وغيرها كان ذلك عام 1972

وحين راجعت قلم مركز التدريب
مع كتاب التأجيل من الخدمة
قالوا عليك أن تدخل السّجن أوّلا
لغيابك

وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي
في غرفة سجن قذرة
جالسًا على صفيحة زيت
والحلاق يعمل في شعري
بماكنة مكسّرة الأسنان صمّمت للإيذاء
دارت الأرض بي دورات ودورات

كنت أسمع مذيعًا يزعق من بعيد
عن طنب الصّغرى والكبرى وأبي موسى
هوّن علي ّالسجناء الأمر
فبعضهم أصحاب مجالس تحقيقيّة

بعد يومين أو ثلاثة
فتح الباب وأخرجوني
قال رأس العرفاء
عليك أن تلتحق بوحدتك
في بغداد غدًا
لأن اسمك أدرج في قوائم المنقولين

وباللباس العسكري ّ وبلا إجازة أو عدم تعرّض
كنت في اليوم الثاني في وزارة الدفاع
من يدخلني ومن يستمع لجندي ّغائب هو الآن

كانت رتب الرّكن المخيفة من عميد وعقيد ولواء
تتصرّف داخل الوزارة بتلقائيّة وبساطة لم أتوقعها
أنا حديث العهد بالجنديّة ممّا جعلني أعتقد أن ّعقدة
الجيش في هذه الرّتب الصغيرة المنفوخة قشًّا وريحا

وبسرعة كان عميد في التعبئة والإحصاء
بعد الإطلاع على كتاب تأجيلي يوصي
بنقلي إلى مقر ّكتيبة مدفعيّة مقاومة الطائرات
في أبي غريب مع سيّارات البريد الذّاهبة هناك
حيث نقلت دورتنا ووزعت على البطريّات المنفتحة
في المنطقة حماية لبغداد

وصلت هناك بعد نهاية الدوام
ويتعيّن علي ّالانتظار حتى اليوم الثّاني
للوصول إلى البطريّة الأولى مع سيّارات
الأرزاق والبريد القادمة صباحًا …

وحين وصلت هناك كان أحد أصدقائي
من الخرّيجين الذين وردت أسماؤهم
معي في كتاب التّأجيل يتلظّى نارًا
وكان قد عمل مباشرة في قلم البطريّة
فسهّل كثيرًا عمليّة تسريحنا رغم أن ّ
موقفي غير سليم بالنّظر لأيّام الغياب
الجديدة …

كنت أردّد مع نفسي/
أنا غائب
يا سيّدي
وأُعَد ّ ُ
في التّعداد حاضر ْ
جسمي هنا
والرّوح قد عبرت
ملايين المعابر ْ
لن تمنعوا عنّي ( النّزول َ)
فإنّني
أبدًا مسافر ْ
لن تمنع الدّنيا
بكل ّقيودها
طيرًا مهاجر ْ

عبد الله عباس خضير / المنجز الأدبيّ
******************************
* قراءةفي سيرةالتّتار/مجموعة شعريّة/دارالحرّية/بغداد ٢٠٠٠م
*وصايا إله الماء/مجموعة شعريّة/دار السّياب/ لندن ٢٠٠٩م
*حاشية الأحلام/ مجموعة شعريّة/شركة الغدير/البصرة٢٠١٢م
*حول الخط ّالأحمر/مجموعة شعريّة/شركة الغدير/البصرة٢٠١٢م
*مراثي القبيلة/مجموعة شعريّة/ دارابن السّكيت/الدّيوانيّة٢٠١٦م
*تساجلني شعرًا/مجموعةشعريّة/دارابن السّكيت/الدّيوانيّة٢٠١٦م
*عزفٌ على الباب/مجموعةشعريّة/دارابن السّكيت(تحت الطبع)
• العازف الأخير(سيرة ومذكرات) معدّة للطبع.
*وهناك أربع مجموعات شعريّة جديدة تنتظر الطّبع .

* ترجم َ لي الدّكتور عبد الباسط الدّرويش في ( معجم شعراء البصرة ) وكتب المرحوم القاص مزهر جاسم مقالة نقديّة عن مجموعتي الشعريّة الأولى ( قراءة في سيرة التتار ) نشرها في جريدة القادسيّة . كما كتب عنّي الدكتور صدّام فهد الأسدي مقالتين في كتابه ( قوافل بلا هوادج ) إحداهما عن مجموعتي الشعريّة الأولى ( قراءة في سيرة التتار ) والثانيّة عن مجموعتي الثانية ( وصايا إله الماء ) . وقامت دار السّياب بمنحي شهادة تقديريّة كما قدّم الأستاذ الشّاعر فيصل حجّاج من إذاعة الإسكندريّة حلقة خاصّة عن شعري وقرأ قصيدتي (غربة ) . وقد تناول الدكتور أنور الموسى الأستاذ في كليّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة ديوان ( مراثي القبيلة ) في دراسته الجادّة التي اعتمد فيها منهج التحليل النفسي ونشرها في مجلّة( إشكاليّات فكريّة ) وقبلها في مجلة (المنافذالثقافية ) اللبنانيّة تحت عنوان / ( أصوات الهزيمة والتمرّد في ديوان مراثي القبيلة للشاعر العراقي ّ عبد الله عبّاس خضيّر ) . كما نشر الدكتور علي عبد رمضان بحثا ً موجزا ًعن شعري في مجلة ( بصرياثا الأدبيّة ) بعنوان ( طائر الملتقى ) كما نشره في ( شبكة الإعلام في الدّانمارك ) كما رشّح شعري للدّراسة كبحث ماجستير وحظي ذلك بموافقة اللجنة العلميّة في قسم اللغة العربيّة بكليّة التّربية / جامعة البصرة . كما كتب الأستاذ النّاقد عبد الهادي الزعر مقالة نقديّة عن شعري نشرها في كتابه ( تحت خط ّ النقد ) الصادر عام ٢٠١٧ م بعنوان ( الشاعر البصري ّ عبد الله عبّاس خضيّر ).