قصة: والنقطة الحمراء
بقلم: أديبة الأطفال د.خديجة حيدورة
في المدينة التي تخاف أن تنام، وُلد ساجد. لم يعرف صوت الرعد كما نعرفه نحن. حين سُئل في المدرسة: “كيف يبدو الرعد؟” أجاب: ” كأنّه ضحكة دبّابة!”
فالرعد في مدينته ابن المدفع. وحين كانت السماء تبرق، كانت الأرض تهتز.
ذات مساء، سقطت قذيفة على منزل الجيران. تطاير زجاج النوافذ، وارتجّت الجدران صارخة. . ركضت أمّه تحمله، تخبئه بين ذراعيها، همست في أذنه المرتجف: “لا تخف يا صغيري.”
كان ساجد يحب الألوان، ويميّز اللّون الأسود. كلّما سقط شهيد في الحيّ، خرج ساجد بحقيبته المهترئة، وراح يرسم وجهه على الجدار. كأنّه يقول: “أنتم خالدون!”
في الجهة الأخرى، داخل برجٍ مسلّح بعيون الكراهية، كان القنّاص إيتمار كوهن يُراقب. اسمه محفور على بندقيته، وعلى ملفات الجيش. صائدٌ للأطفال، يعلّق صورهم في غرفته، كما يعلّق بعض الجنود الأوسمة.
لكنه لم يصبح قنّاصًا مصادفة. هم صنعوه منذ طفولته.
في مدرسته، حين كان عمره سبع سنوات، قال له المعلّم: “لا تنسَ، هناك من وُلد ليكرهك… اقتله قبل أن يكبر.”
الجدران كانت مغطاة بصور جنود يبتسمون فوق أنقاض بيوت مدمّرة، وأغنية الصباح تقول: “نحن الشعب المختار!”
علّموه أن الأرض ملك لقدمَيْه، وأن كل ما في الجهة الأخرى ظلّ مزوّرا لحقيقة إسرائيل.
وفي المعسكر، حين حمل البندقية للمرة الأولى، قال له الضابط:”هوذا الهدف!”
وحين سأل: وإن كانت طفلاً؟ ابتسم الضابط وأجاب: “الطفل هو العدوّ الصغير… إن لم تقتله اليوم، سيكبر ليطلق النار عليك غدًا”.
وهكذا أصبح إيتمار لا يرى الأطفال أطفالًا، يرى فيهم بذور خطرٍ يجب اقتلاعه. لم تكن دفاتره ملأى برسوم… لا شمس ولا بيت ولا شجرة، بل كلها رسومات حروب…. أعلام، بنادق، وسياجات عالية.
في صباحٍ رمادي، خرج ساجد من بيته. أمه كانت تطعم الحمام، وأخته ترسم شمسًا ناقصة في دفتر المدرسة. هو حمل الفحم، وخرج.
وقف أمام الجدار، وبدأ برسم وجه أخيه الشهيد. العين اليسرى أوّلًا، ثم الحاجب، ثم الضحكة… كلّ شيء كان يخرج من الفحم كأنّه يتنفس.
في تلك اللحظة، كان إيتمار قد عدّل عدسته. استقرّت النقطة الحمراء فوق جبهة ساجد. لم يصرخ أحد. لكن الجدار كله ارتجف.
ساجد لم يتحرّك. رفع يده، مسح النقطة كما يُمسح العرق، وتابع الرسم.
إيتمار جَمُد. عينه في العدسة، والطفل في مكانه. ضغط على الزناد قليلاً، ثم توقّف. “لماذا لم يركض؟”
في ذهن القنّاص، كل هدف يهرب. كلّ هدف يخاف. هذا الطفل خالف القاعدة. وهذا ما أزعجه.
في اليوم التالي، لم يرسم وجهًا. رسم عينًا واحدة فقط، مفتوحة، مُحدِّقة. تحتها، بخطّ يشبه الهمس، كُتبت جملة: “أراك”.
إيتمار ابتسم بسخرية باردة:” تظن أنك تراني؟… ارسم أكثر، لن ترى شيئًا حين يسقط رصاصي.”
ثم وجّه العدسة من جديد. الجدار يُحدّق إليه. وهو لا يحب أن ينظر إليه أحد.
في الفجر الثالث، لم يظهر ساجد في الشارع. لكن على الجدار، رُسمت مرآة كبيرة، داكنة، سوداء مثل قلب الجدار.
في داخل المرآة، كان ظلّ رجلٍ يحمل بندقية. وجهه واضح. ملامحه مكسورة. يشبه إيتمار تمامًا.
ضرب إيتمار المنظار. صاح”من دلّه عليّ؟ من رسم هذا الوجه؟” لم يجبه أحد.
أطلق النار، مرة، مرتين، ثلاثًا. الغبار تناثر، أجزاء من الجدار تساقطت. لكن المرآة لم تختفِ.
لم يرتَح. لا لأنّ الضمير صحا، بل لأن الطفل خرق قوانين الخوف. وهذا ما لا يحتمله القنّاص.
في اليوم التالي، وُجد إيتمار في زاوية البرج، عينه مفتوحة كأنّها عالقة في المرآة. لم يكن مصابًا. لكنه كان مدهوشًا كمن رأى شبحًا لا يمكن قنصه.
طبيب الوحدة كتب في التقرير:”لا جرح ظاهر. القنّاص دخل في حالة جمود نفسي. الأسباب مجهولة… لكن عيناه لا تغمضان.”
ومنذ ذلك اليوم، لم يظهر ساجد في الحيّ. بعضهم قال إنه سافر. آخرون قالوا””أمه أخفته، كي لا تخسره مثل أخيه.”
لكن الرسم بقي. والمرآة بقيت. والنقطة الحمراء اختفت.
