الأربعاء , أبريل 30 2025
الرئيسية / اللغة واسرارها / الضاد لغة النفس والهوى

الضاد لغة النفس والهوى

بقلم د. رلى فرحات 

اللغة العربيّة وعلم النّفس – بقلم د. رُلى فرحات

اللغة بالنسبة إلى كلِّ أمَّة هي أداة تَواصُل، ورمزُ عزَّةٍ، وإثبات وجود، ومظهر حضارة، وبصمة ثقافة وطريقة تفكير. أمَّا اللغة العربيَّة (وكما تشتهر بإسم لغة الضاد) فهي بالنسبة للعرب كلُّ هذا، وتَزِيد عليه أنها لغةُ دينٍ وعبادات وشعائر، ولغة كتابٍ سماوي “القرآن”. وهي اللغة الوحيدة التي دامَتْ لأكثر مِن خمسة عشر قرنًا مِن الزمان، فاللغات القديمة قد انقرَضَتْ كلها !!.
اللغة العربيّة هي لغة الغِنَى والثَّراء والوفرة في المفردات وتدرجاتها، ويمكنهـا الإستغنـاء عـن جميـع الألفــاظ الأعجميـّـة التي دخلت عليها . فهي لغة غنيـّة بنفسهـا فـيها كـل مـا يحتاجه الإنسـان للتّعبير عنه في دقة وإيجاز وهذا ما لا نجده عند اللغات الأخرى وحتى إن كانت تُعتبراليوم لغة عالميّة مثل الإنكليزيّة. ولا توجد لغةٌ في العالم منذ أن قامت البشريّة حتى اليوم يحوي قاموسها ما يَحوِيه المعجم العربي من مفردات، ليس هذا فحسب بل تنوُّع المعاني بأقلِّ قدرٍ من الكلمات وهذه حقيقة دامغة تحدّث عنها المستشرقون قبل العرب والمسلمين.
للغة العربية ميزة خاصة، فهي تُقرأ كما تُكتب، وعلامات تحريكها وتنوينها تجعل من قراءتها أمرًا سهلًا، ومن غنى مفرداتها أمرًا ممتعًا. وهذه الصّفة قلّما توجد في لغة أخرى، فالإنجليزية على سبيل المثال، لا تُكتب كما تُنطق، فهنـاك حـروف زائدة لا تُلفظ وهناك حروف تُلفظ حسب ما يسبقها حروف أو ما يأتي بعدها حروف. كذلك فالكلمة العربيّة الواحدة تحتاج إلى عدة كلمات لترجمتها إلى اللغة الأجنبية، فمثلا: أحبّك = I love you، أعشقك = I love you، وكما تعلمون فالحب درجته تختلف عن العشق. وكلمة واحدة من القرآن ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ﴾ يقابلها خمس كلمات باللغة الإنجليزية! It will suffice for them (وسوف يكون كافيا بالنسبة لهم) وسورة ﴿الفاتحة﴾ المؤلَّفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنجليزية 70 كلمة.
اللغة العربيّة ارتبطت بالإسلام لأنها لغة الوحي الي نزل على رسول الله محمد عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسّلام، فكانت بذلك أفضل لغات البشر ولقد خصهـا االله عز وجل بالبيان فقال في كتابه الكريم: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾
وقد تحدى الله قُدست أسمائه مخلوقاته من إنس ومن جن أن يأتوا بمثل القرآن، فقال في الآية الكريمة: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾
اللغة العربيّة تتميّز عن غيرها من اللغات بعدة سمات التي من بينها ما يلي:
الإعراب: اللغة العربية تتفرد بوجود إعراب لكل كلمة أو حرف واقع في الجملة وحتى لغير الظاهر والمقدر، وإن كان الإعراب موجود في بعض اللغات الأخرى.
غنية بالمعاني وبالمترادفات: اللغة العربيّة هي اللغة الوحيدة التي تجد للمعنى الواحد أكثر من كلمة، وتجد فيها للكلمة الواحدة أكثر من معنى.
السلم الصوتي: تحتوي اللغة العربية على اكبر سلم صوتي من الحروف بداية من الشفاه مرورا باللسان ووصولا للحلق.
الإشتقاق: تتميز اللغة العربية بوجود المشتقات للكلمة الواحدة مثلاً: (سحب، يسحب، سحاب، سحّاب، مسحوب، مسبحة، ساحب)
الدقة في التعبير: لا يوجد على وجه الأرض لغة تضاهي اللغة العربيّة في دقة التّعبير والبلاغة عن وصف المشاعر والأحاسيس وذلك من خلال الأشعار والنثر. وهنا نُعطي مثال من كتاب “فقه اللغة وسر العربية: للكاتب “أبو منصور الثعالبي” – الفصل الحادي والعشرون (في ترتيب الحب وتفصيله):
أول مراتب الحب، الهوى، ثم العلاقة، وهي الحب اللازم للقلب، ثم الكلف، وهو شدّة الحب. ثمّ العشق، وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب. ثم الشّعف، وهو إحراق الحب القلب مع لذة يجدها. وكذلك الّلوعة والّلاعج، فإنّ تلك حرقةُ الهوى، وهذا هو الهوى المُحرق. ثمّ الشغف، وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب، وهي جلدة دونه. وقد قُرئتا جميعا (شغفها حبًّا) وشغفها. ثمّ الجوى، وهو الهوى الباطن. ثم التّيم، وهو أن يستعبده الحب، ومنه سمي تيم الله أي عبد الله، ومنه رجل متيّم. قم التّبل، وهو أن يُسقمه الهوى. ومنه رجل متبولٌ. ثمّ التّدليّة، وهو ذهاب العقل من الهوى. ومنه رجلٌ مُدلّةٌ. ثمّ الهيوم، وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه. ومنه رجلٌ هائمٌ.
وهذا ما نراه ونلمسه أثناء ممارستنا لمهمة العلاج النّفسي حيث لكل مريض حكاية يرويها بلهجته التي تحوي ما تحويه من عبارات ومفردات، فهو يختار من قاموسه اللغوي ما يصف حالته بالضبط، فبدلًا من أن يقول أحبها كثيرا، يقول أعشقها… وبكلمة واحدة يستطيع التعبير عن شدة حزنه أو ندمه أو فرحه ..
كذلك أثناء إخضاع هذا المريض إلى أحد الإختبارات الإسقاطيّة التّحليليّة، يبدأ عادة بنسج الحكايات حول الصور، وأحيانًا يبدأ مناقشتها، فتستثير تداعي كلمات تختلف شدة وحدة حول ذات الموضوع. وعليه فمُعظم المرضى ومن خلال الإستبصار بمرضهم ورؤية المشكلة من خارجها يبدؤون التفكير بالمشكلة وهنا تبدأ الخطوات الأولى نحول الحل…
اللغة العربية، تبدأ منذ الصغر، ويجب تدريب الصّغار عليها من خلال الإستماع لنصوص عربيةّ كثيرة وقراءة القصص، وستكون النتيجة جيدة على المدى القريب ولاحقًا البعيد…
على الإنسان العربي أن يعرفَ أهميةَ هذه اللغة ومكانتها، ويؤمن بأنه لا غنى لنا عنها، كما يجبُ أن يعتزَّ بها ويُفاخر بإتقانها لا بغيرها من اللغات كما هو الحاصل منذ عدة سنوات وحتّى الآن. وعلينا أن نعلمَ أنَّ اللغةَ بحرٌ يجب أن نتعلمه ونتقنه، وتذكّر أنّ السباحة فيه لا تكفي، بل لا بدّ من أن نغوص في مكنونِه، ونستخرج منه المعاني الجميلة والمفردات المُتقنة، العميقة والبديعة والتي تصنع الإنسان وتلبسه ثوب الثقافة والإبداع…