اعداد الدكتورة فاطمة شحادة
حكاية القارئ… دراسات في القصّة السّوريّة ” لنضال صالح:
حكايا الباحث عن الخلاص، والسّاعي إلى التّجاوز.
شيء من السّيرة
نضال صالح، أديب سوريّ، من مواليد العام 1957، وُلد في حلب. أستاذ جامعيّ، يكتب أبحاثًا في تاريخ الأدب ونقده، فضلًا عن الرّواية والقصّة. يُتابع حركة الثّقافة العربيّة، وقد أسهم في عدد من المؤلّفات النّقديّة المشتركة. ينشر متابعاته في عدد من الصّحف السّورية والعربيّة. فضلًا عن مشاركته في الكثير من المؤتمرات العلميّة…
قبسات من ” حكاية القارئ”
ترتكز هذه الدّراسة على معالجة الرّؤى النّقديّة النّاطقة بدلالة، مُتمثلة في الكتاب النّقدي: ” حكاية القارئ دراسات في القصّة السّوريّة ” للدّكتور نضال صالح، في محاولة للكشف عن تجربة صالح بوصفه ناقدًا للتّجربة القصصيّة السّورية ونقدها معًا، ما يُسهم في معرفة الواقع النّقدي القصصيّ السّوري والواقع الحياتي وتحوّلاته مُجسّدًا ومرئيًّا إليه، ما يكشف هُويّة كلّ منهما، من فضاء قِيَمي ودلاليّ.
حكاية القارئ دراسات في القصّة السّورية ، كتاب ينتمي إلى حقل النّقد السّردي القصصيّ. يتوزّع محتواه على ثلاثة فصول أساسيّة؛ تتناول حركة التّجربة القصصيّة السوريّة، في غير مرحلة من نشأتها، وتُواكب تطّورها، في المعنى والمبنى، فضلًا عن تحوّلاتها إزاء التّغيّرات التي طرأت على الفنّ القصصيّ في النّصف الثّاني من القرن العشرين… وقد عرفت هذه المرحلة إنتاجًا قصصيًّا غزيرًا ومُتنوّعًا، والتّجريب فيها مستمرّ، ولا يتوقّف؛ ذلك لأنّ أبرز ما يُميّز النّوع القصصيّ، أنّه لا ينفكّ عن التّطوّر والتّحوّل والتّغيير.
يتناول الفصل الأول من الكتاب، عوالم قصصيّة، خمس دراسات تتناول تجارب قصصيّة سوريّة، تجربتان منهما مجهولتان في تاريخ القصّة السّورية، والفصل الثّاني يتناول ظواهر قصصيّة، دراستان، الأولى تبحث في اتّجاهات القصّ السّوري وتحولاته في عقدي الثّمانينيّات والتّسعينيّات، والثّانية تعرض أهم ملامح المشهد القصصيّ السّوري في التّسعينيّات. وأخيرًا الفصل الثالث، مجموعات قصصيّة، فيُعنى بخمس مجموعات قصصيّة يتنمي كُتّابها إلى غير مرحلة من تاريخ التّجربة القصصيّة السّورية.
يُقدّم نضال صالح، من خلال هذا الكتاب، معرفة مُنتظمة بالجهود القصصيّة المبذولة في سورية، وهو بذلك يُمثّل مسيرة تجربة نقديّة للنّتاج العربي السّوري في هذا الميدان، من خلال تبنّي رؤية نقديّة خاصة تُضيء تحليلًا وتأويلًا، على نتاج قصّاصين سوريّين تركوا بصمتهم الإبداعيّة في المجال السّردي القصصي، على المستويين الموضوعيّ والفنّي… لا سيّما أنّه يرى بأنّ الخطاب النّقدي المعنيّ بتجربة القصّ السّورية لم ينصفها، ولم ينل إبداع بعض القصّاصين ما يليق بهم من المتابعة والتّقدير.. ومن هؤلاء: صباح محيي الدّين، محمد حمويّة، وليد إخلاصي، حسن م. يوسف، حيدر حيدر.
وبما أنّ الدراسات التي تُعنى بالقصّة القصيرة قليلة جدًّا، مُقارنة بالدّراسات التي تُعنى بالشّعر والرّواية، فنرى بأنّ المادّة التي نُقدّمها تُمثّل تجربة كاتب قصّة قصيرة، تتصّف مُقاربته النّقديّة بخصائص مُميّزة، مُتسلّحة بالمنهج الواقعي، وتنطق برؤية خاصّة، كاشفة وناقدة في آن معًا.. فالقصّة بمعناها الحديث باتت فضاء تجلٍّ للمصير الفرديّ و الجماعي .
كشف رؤيوي نقديّ
الحقيقة أنّ الأسئلة التي تُطرح على الأديب والنّاقد نضال صالح، في سياق المسار الذي تتّخذه قراءته النّقديّة في كتابه ” حكاية القارئ، دراسات في القصّة السّورية” كثيرة ومتنوّعة، ومنها:
– إذا كانت القصّة تعتمد على التّجريب الهادف إلى تجسيد الرّؤية الخاصّة بناء قصصيًّا… الذي هو في الأصل بناء مُتخيَّل.. فإلى أيّ مدى واءم صالح بين النّظريّ والعمليّ مواءمة تُلبّي شروط التّجربة النّقدية الفنّية والجماليّة الإبداعيّة لتكشف عن الرّؤية التي يرسمها القصّاصون لذواتهم ولشعوبهم؟
– هل توسم تجربة صالح بفن النّقد القصصي الخلّاق أم فن التّلفيق النّقدي القصصيّ؟ وكيف نحكم على ذلك؟
إنّ إثارة الأسئلة أمرٌ مهم، وإنّ كشف الواقع/ الوطن- سوريا الذي يطرحه صالح هو أكثر أهميّة…
يقول صالح في مقدّمة كتابه: إذا كان النّاس شُركاء ” في ثلاث، الماء والكلأ والنّار، إنّهم شركاء في رابع أيضًا، هو : الحكاية”. ( ص. 6)
هذا الكلام الذي نطقه صالح، يُظهره ناقدًا ذا عين ثالثة، وهذا هو شأن كلّ قاص وأديب كبيريْن… ” ويقوم المنظور القصصيّ الذي تكوّنه التّجربة/ الرّؤية باختيار المادة القصصيّة/ اللّحظة المهمّة، ثم يقوم بإنشاء بنيّة قصصيّة من هذه المادّة، تنطق برؤيته… فالمنظور القصصيّ هو هو كيفيّة إدراك العالم، وكيفيّة بناء قصة تمثل هذا الإدارك وتنطق به” .
يرى صالح في معرض حديثه عن تجربة صباح محيي الدّين، أنّها جسّدت محاولة تأصيليّة ” لقصّ مستوف لمجمل شروط الإبداع القصصيّ وأدواته” (ص. 11) وأن أبرز ما يُميّزها ” حفرها في الواقع الذي تنطلق منه، ومُحاولة غوصها على مرجعيّات الوعي الذي تصدر الشّخصيات فيها عنه” (ص. 14) فضلًا عن فضاءات قصصه التي تكشف هموم شخصيّاته في صراعها مع واقعها المرير.
كما يرى بأنّ تجربة حمويّة تميّزت على مستويين: الأوّل، انحياز كاتبها إلى البيئة التي ينتمي إليها من جهة، فضلًا عن تقديمه نماذج إنسانيّة مُمعنة في ضآلتها، على المستوى الاجتماعيّ، والمُترفة بقيم الحق والخير والجمال على المستوى الانساني ( راجع ص. 39)
ولما أن كان من واجب المبدعين أن يكشفوا واقعهم، ويطرحوا أسئلة يمليه عليهم التّأمّل في ما وراء الظّاهر أي الخفيّ… فيخلص صالح، بأنّ القصص التي تأخذ مادتها من هموم النّاس، لتجسّد مظالمهم وأحلامهم هي الجديرة بالإبداع، لأنّها انبثقت من رحم المعاناة لتنشئ كتابة تشكّل تجربته الذّهنيّة النّاطقة بوعي وشفافية وحرّية، وهو بذلك يرى ما يريد، ويقول ما تنطق به الرّؤية الحرّة، ويمثّله لغة نقديّة كاشفة مُمتعة في آن معًا، فيكون نقده كشفًا رؤيويًّا ولغويًّا.
نقرأ في هذا المجال: … لا بدّ من أن ” يُقدّم القاصّ لقارئه زادًا معرفيًّا بعالم فادح في قساوته ومُترف بصفائه ونقائه وفطريّته. عالم ترهقه قوّتان: الطّبيعة والظّلم…” (ص. 49)
إذًا، شكّلت مُقاربة صالح شكلًا أدبيًّا تُشكّله التّجربة، ما يعني أنّها ” كشف لعالم يحتاج إلى كشف”، وفي هذا الكشف يتبيّن نماذج قصصيّة إنسانيّة عبّرت عن المجتمع السّوري وحركته وتحوّلاته.
يُضيء صالح في قراءته لتجربة وليد إصلاحي على أسلوبه المتميّز في القصّ والذي ” يختلف عن الطّرق المألوفة في العربية، طريق الغرابة الشّفافة، والأحاسيس الطفوليّة، والأحلام الضّاحكة، وبسبب الأسلوبيّة الحيويّة العفويّة، والخفيفة الظّل، والمتدفّقة بغنائيّة رشيقة..” (ص. 59)
كما يخلص بأنّ ما يُميّز أسلوب حسن م. يوسف في غير قصّة وكذلك أسلوب محي الدّين، هي روح السّخرية التي لا يكفّان عن استخدامها، وتعدّ هذه اللّغة الوجه الآخر للمأساة المتمثّلة في سخرية القدر وانقلاب الأدوار والقيم… فضلًا عن نجاحهما في تجسيد الواقع المعيش، وكشفهما لهويّات شخصيّات متعدّدة تُمثّل نماذج إنسانيّة، جسّدت تناقضات المجتمع السّوري في ثنائيّات ضديّة دالة: الشّخصيّات القاهرة/ الشخصيات المقهورة… تُمثل الشّخصيات المقهورة سعي الانسان العادي إلى تحقيق ذاته، والعيش في وطنه حرًّا مُنعّمًا بخيراته، مقاومًا لكل ما يُعوّقه في سعيه…
إذ يقول : ” حسن م. يوسف استطاع وبجدارة أن يرسي أساسًا متينًا لتكوين رؤية قصصيّة متميّزة، موضوعها الرّئيسي الإنسان في همومه ومعاناته وصراعاته ضدّ عوامل التّدمير والتّشويه الكامنة في الواقع” (ص. 82)
كشف نضال صالح عن المكانة المتقدمّة التي تبوّأها حيدر حيدر في مجال الإبداع القصصيّ، ورأى أن أسلوبه الفنيّ شكلٌ له علامة فارقة.. ف” شاعريّة اللّغة في نصّ حيدر القصصيّ… ليست إنشاء، بل قيمة مُنبثقة من حركة القصّ، وعلى نحو أعمّ من مجمل مكوّنات تلك الحركة، التي غالبًا ما تنجز إيقاعًا خاصًا بها، والتي غالبا أيضًا ما تمنح قصّ حيدر شعريّته الدالة عليه وحده” (ص. 126)
نخلص ممّا ورد سابقًا، بأنّ القراءة النّقدية القصصيّة لنضال صالح تتبنّى ما يأتي:
أوّلًا، أنّ لا بد أن تأخذ القصص مادّتها من الواقع المعيش، لتظهر صراع الإنسان والطّبيعة.
ثانيًا، قوّة الإنسان وصراعه مع قوى الظّلم والسّالبة للحقوق.
ثالثًا، السّرد المتقن الخادم للقضيّة، من خلال القراءة الواعية…
وأخيرًا، الجماليّة المُتمثّلة بلغة شعريّة مُتقنة وجذّابة.
الانتماء الواقعيّ والمُلتزم
تُمثل تجربة نضال صالح في مُقاربتها النّقدية، اتجاها في القصّة القصيرة ونقدها، هو الاتجاه الواقعي النّقدي، الذي رأى للواقع السّوري وتحوّلاته، وصوّر تطوّراته…
أضاء صالح في مُقاربته على مصدر المادة القصصيّة لغير قاص، فضلًا عن الحدث الرّئيسي لغير قصّة، بالإضافة إلى الشّخصيّات، وفضاءات السّرد، الزّمن القصصيّ، وبالأخص الزّمن النّفسي- وهو الزّمن الذي تشكّله الحالة، فضلًا عن المكان القصصيّ/ الفضاء( فضاء الآخر/ الفضاء المحلّي السّوري/ الفضاء القومي- فلسطين/ الفضاء الرّمزي..)، اللّغة وتنوّعها وأسلوبها، أهي لغة محكيّة أم لغة موضوعيّة، سهلة أم معقّدة، شعريّة القصّ، وأظهر اهتمامًا بدراسة التّقنيات السّردية في غير قصّة من تجارب القاصين الذي عنيت الدّراسة بهم، العجائبي بوصفه تقنيّة..، فضلًا عن الوصف، تيار الشّعور، التّناوب، التّنضيد، السّيري والتّخييلي، العتبات النّصية، القصّة الرّواية، القصّ والشّعر، القصّ والفنون الأخرى، تفتيت الحدث، العودة إلى التّراث القصصي العربي والإفادة من مُنجزاته…
ومن خلال مما تناوله، نرى بأنّه كان واقعيًا في مقاربته للنّصوص بعيدًا من التّسجيليّة؛ وهو بذلك قد بنى واقعًا فنيًّا يُعادل الواقع الحياتي، ويرى إليه كاشفًا ودالًا.
كان صالح ملتزمًا في تجربته النّقدية، كاشفا صراع الانسان مع قوى الظّلام؛ ومن الثّنائيات الضّدية التي أضاء عليها في غير قصّة من قصص حمويّة: الانسان في مواجهة الحيوان، الحلم في مواجهة الواقع، القوّة في مواجهة الوهن، العدالة في مواجهة الظّلم، الحق في مواجهة الزيف، القضية في مواجهة الضّياع، القيد في مواجهة الحرية… وكلّها تكشف صراع الانسان مع الطّبيعة والواقع ( راجع ص. 48)
من ناحية ثانية، فمن يقرأ مقاربة صالح النّقدية في كتابه ” حكاية القارئ دراسات في القصّة السورية”، يجد بأنّ اهتمامه ينصبّ على النّص من دون خصوم مع صاحبه، وقد أظهر عتبه على التّجربة النّقديّة القصصيّة السورية مُفصّلا رؤيته بكلّ تجرّد وصراحة، مقدّمًا القرائن والبراهين.
إذ يرى بأنّه قد مضى ما يزيد على ستّة عقود على صدور أوّل مجموعة قصصيّة لصباح الدّين، وعلى الرّغم من ذلك فإنّ نقد القصّة لم يلتفت إلى تجربته، سوى بعض القراءات التي جاءت على استحياء وعجل لا تليق بمبدعها.
كما رأى في معرض حديثه عن تعاطي النّقاد مع إبداع حمويّة القصصيّ
” أن الخطاب النّقدي المعني بهذا الفن دأب، ولما يزل، على الاحتفاء بأصوات وتجارب بعينها لم تكن جديرة بذلك، بل لم يكن سوى القليل من نتاجها جديرًا بذلك، وعلى تهميش أصوات وتجارب يمكن عدّها بحق علامات مهمة في التجربة القصصيّة ” (ص. 36) ما أدّى برأيه إلى إلحقاق الأذى النّفسي بها، لأنّه تم نفيها إلى خارج دائرة المتابعة النّقدية عن قصد ووعي.
كما خلُص بأن النّقد السوري لم يكلّف نفسه الالتفات إلى التّجربة الابداعية القصصيّة السّورية ومساءلتها، على الرّغم من أهميتها، بل خصوصيّتها أيضًا، بينما أسرف في المقابل بالاحتفاء بتجارب شديدة التّواضع على غير مستوى ( ص. 80).
وأبدى استغرابه من الأصوات النّقدية التي تطلق أصواتها محكومة بذهنيّة ثأريّة، من دون أن تقدّم ما يكفي من القرائن الدّالة على دقّة نقدها وصوابها والتزامها، مستشهدًا بالرّؤية النقديّة لعبد الله أبو هيف في قراءته النقدية المزاجيّة، إذ رأى أنّ الأخير يُطلق أحكامًا جزافًا على إبداع بعض القصّاصين، وفي ذلك كيد وجور وانحياز غير موضوعيّ.
النّاقد القاصّ- النّاقد المبدع
إنّ الحديث عن التّجربة النّقديّة لدى صالح، يدفعنا لطرح ما يأتي:
هل ينطلق نضال صالح في تجربته النّقديّة من موقع التّلقيد أم الابتكار؟ من موقع المحليّ أم العالميّ؟ وما هو الأنموذج النّقديّ الذي تتّصف به تجربته؟ أيّ بمعنى آخر، هل ينطلق في رؤيته من موقع النّاقد- القاصّ، أم من موقع النّاقد المبدع؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بدّ لنا من أن نغوص غوصًا متأنّيًا في تجربته القصصيّة حينًا وتجربته النّقديّة حينًا آخر، وعلى غير مستوى..
يقول صالح في مقدّمته:
” النّقد مُغامرة ثانية حول مغامرة أولى هي الإبداع، وإلى أنّ كليهما، الإبداع والنّقد، فعاليتان ومتكاملتان، وما من فضل لأحدهما على الآخر” (ص. 4 و 5)
هذا الكلام يدفعنا للقول: إن تجربة صالح تُمثّل أنموذجًا لإشكاليّة القاصّ-المبدع، الذي سعى للإجابة عمّا يأتي: الواقع وهمومه، أسئلته وطموحاته، إبداعًا ونقدًا… ما يعني أنّه أحاك خيوط الوصل بين الواقع والإبداع في ظلّ سعي إلى التّجاوز…
وإذا كانت الهواجس الإبداعيّة عند الأدباء تُداعب رغبة الانعتاق من ذلك الشّكل القائم في الذّاكرة الثقافية، وبطون التّاريخ الأدبي النّقدي، محاولة الخروج منه بأشكال مختلفة، فإنّ مخاضها لا يزال عسيرًا…
لكن المتأمّل لتجربة صلح يلحظ سعيًا لترسيخ أسس للمارسة النقديّة الحديثة، لكن كيف ذلك؟ وهو سؤال يُطرح.
تأتي الإجابة. من خلال أدواته الخاصّة القائمة على تفكيك معطيات السّائد بغية ابتكار شكل جديد يُلائم الحياة والثقافة المعاصرة، فخرج بذلك من دائرة التّكرار والتقليد الأعمى.
يضيء صالح بوصفه ناقدًا على بعض التّقنيات التي تُميّز الأديب الكاتب عن الأديب المبدع والمتميّز (ص. 86) ومنها: إيهام القارئ بواقعيّة الأحداث، استخدام أعقد التّقنيات الحديثة والقديمة بليونة ويسر، حسن التّوظيف، البراعة في رسم الشّخصيات والتنوّع في إظهار هويّاتها لتكشف عن مختلف فئات المجتمع، الابتعاد عن الافتعال التّقني… ولا بدّ أن ينجح القاصّ في الجمع بين حداثة الشّكل وواقعية المضمون.. والأهم من ذلك كلّه، نجاح القاصّ في المزج بين الأحداث بواقعيّتها وبين ذاتيّته الصّادقة المنفعلة والمتأثّرة بهموم الشّخصيات، النّاطقة بأوجاع النّاس وهمومهم.
وإذا كان المنهج النقدي ليس سوى مجموعة من الآراء بل رؤية أو فلسفة متكاملة للأدب والإنسان والعالم، وإذا كان للنّقد روّاده كطه حسين وأدونيس وغيرهما… فإنّ صالح أرسى تجربة نقدية واعية هي أشبه بالنّكهة السّرية الخاصة التي يضيفها معدّ الطّعام إلى وجبته الشّهية، إنّه الأسلوب، والأسلوب هو الرّجل، كما يُقال!
وفي ظل غياب الوعي بالأزمة المنهجية النقدية، وضرورة إيجاد منهج على حد قول سيد قطب الذي يرى بأنّ كتاباتنا النّقدية مجرّد تجريب ( اجتهاد) فصالح من خلال مزجه بين المناهج الثلاثة: الفني، النفسي، والتاريخي… قد صاغ منهجًا مجتمعًا شاملا يكفل لنا صحّة الحكم على الأعمال الأدبية- القصصية وتقويمها بشكل صحيح وموضوعيّ بعيدًا من الطريقة الاعتباطيّة التي تحكم على غير نص انطلاقًا من مبدأ المزاجيّة والشخصيّة وأحيانًا الكيدية!
النّقد وأزمة التّلقّي
الحديث عن نضال صالح النّاقد والقاصّ يدفعنا إلى طرح إشكاليّة نقده والمتلقّي وأزمته. هل يأخذ النّاقد صالح بعين الحسبان ما يعيشه القارئ العربي من أزمة تلقٍ للقصّة الحديثة؟ وهل أدّى دوره في تعبيد الطّريق أمام القارئ؟
وبما أنّ التّلقّي مرتبط أشدّ الارتباط بالقراءة، أيّ المستوى الثّقافيّ لدى القارئ، فنطرح السؤال الآتي: هل يُمكن لأيّ قارئ فهم التّجربة النّقديّة القصصيّة ما لم يكن مُزوّدًا بثقافة أدبيّة غنيّة؟
يُلحظ أنّ صالح يحمل رؤيا خاصّة للإنسان والحياة والكون والوجود لتغدو رؤيته أداة تفسير للانسان المعاصر، وللعالم وتغييره وتفكيكه.. ينطلق في رؤيته من إيمانه بأنّ ” مجمل نصوص التّسعينيات القصصيّة يبدي حفاوة .. بالواقع، بما يضطرم فيه من مثيرات جارحة على المستوى القيمي خاصة، كما يعبّر في الأغلب منه، عن تمكّن كتابه من استجلاء الوعي التي كانت تضبط إيقاع المجتمع السّوري في المرحلة التي صدرت خلالها تلك النّصوص، ثم عن نفاذ هؤلاء الكتاب إلى الجوهري تمامًا مما كان يسكن حركة ذلك المجتمع في نقطة محدّدة، ويوثّق نموّه وتطوّره..” (ص. 152)
تحت عنوان ” من النّص إلى القارئ” يضيء صالح على تجربة حيدر حيدر التي أوغلت في الدّاخل الانساني، فشدّت بذلك القارئ، لأنّها أعادت تشكيل القيم التي تبدّدت بفعل الماديّة وقيم المجتمع البديل الاستهلاكي.. كما رأى أنّ غير قصّة له تغوي القارئ فيُعيد تشكيل نص جديد انطلاقًا من النصّ نفسه… ورأى أن التجربة القصصيّة السورية الإبداعيّة الحديثة فتحت الأبواب أمام المتلقّي لتعدد القراءات والتّأويلات… وبهذا تمكّن الكثير من كتّاب القصّة الحديثة في سورية من اختراق ألغام التّجريب، وكانت تجارب الثّمانينيّات والتّسعينيّات هي الأبرز في هذا المجال.
لكن لا ننفي بأنّ القارئ- المتلقي ليتمكّن من فهم الواقع القصصيّ وكشف جماليّته لا بد له من اللّجوء إلى النّقد القصصيّ الذي جاء في خدمة الأصوات، ما يعني أنّ التّلقي بات منهجًا نقديًّا اهتم به النّقّاد عمومًا ونضال صالح خصوصًا.
يرى الكثيرُ من النّقاد بأنّ الحداثة الأدبيّة أصبحت تُمثّل حاجزًا بين الأديب- القاصّ والجمهور، وأصبح هناك أزمة حقيقية في التّلقي، وقد اتخذت هذه الأزمة بعدين، الأوّل: يتعلّق بالنّصّ الأدبيّ الحداثي ( القصّة القصيرة) والثّاني يخصّ النّصّ النّقدي الحداثي، مايعني أنّ النّص النقدي فاقم هذه الأزمة.